كادت تنقضي السنة السادسة للهجرة وكانت تلك السّنة سنة جهاد مستمر ودفاع مستميت بالنسبة للمسلمين. واهتم المسلمون بنشر الرسالة الإسلامية وبناء الإنسان والمجتمع الإسلامي وتكوين الحضارة الإسلامية. وقد ادرك كل من كان في الجزيرة العربية عظمة هذا الدين وعرف أن من المستحيل استئصاله والقضاء عليه، فالصراع مع قريش ـ وهي أكبر قوة سياسية وعسكرية آنذاك ـ ومع اليهود وباقي القوى المشركة لم يمنع من انتشار الإسلام وسطوع معانيه وبلوغ أهدافه.

ولم يكن البيت الحرام ملكاً لأحد أو حكراً لمذهب أو أصحاب معتقد معيّن، فقد كانت هنالك أصنام وأوثان متعددة يحج إليها من يعتقد بها، إلاّ أن طغيان قريش وعتوّها صدّ النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم والمسلمين عن زيارة البيت الحرام.

وفي هذه الفترة أدرك النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم حرج قريش في موقفها تجاه الإسلام فقرر أن ينطلق بالمسلمين في رحلة عبادية مؤدياً العمرة، ليعلن من خلالها مواصلته للدعوة الإسلامية ويوضح ما يمكنه من مفاهيم العقيدة الإسلامية ومعالمها واحترامها وتقديسها للبيت الحرام، وتكون حركته هذه مرحلة انفتاح رسالي جديد وعهد انتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الانتشار والهجوم.


سلك الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وأصحابه طريقاً وعراً ثم هبطوا إلى منطقة سهلة تدعى بـ(الحديبية) فبركت ناقة رسول الله فقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :(ما هذا لها عادة ولكن حبسها حابس الفيل بمكة) (١) ، فأمر صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم المسلمين بالنزول فيها ـ وقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :(لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها) (٢) ، ولكنّ قريشاً بقيت تترصد المسلمين ووقف فرسانها في طريقهم، ثم بعثت إلى النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بديل بن ورقاء في وفد من خزاعة لتستعلم هدف النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وتصده عن دخول مكة، وعاد الوفد ليقنع قريشاً أن السلم والعمرة هدف النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم . واستكبرت قريش وبعثت بوفد آخر يرأسه الحليس ـ سيد الأحابيش ـ فلما رآه النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم مقبلاً قال: (إن هذا من قوم يتألهون) (أي يعظمون الله). فلما رأى الحليس الهدي رجع إلى قريش من دون أن يلتقي بالنبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم ليقنع قريشاً ان النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم والمسلمين جاءوا معتمرين ولكن لم تقتنع قريش فأرسلت مسعود بن عروة الثقفي الذي انبهر من مشهد المسلمين وهم يتسابقون لالتقاط القطرات المتناثرة من وضوئه صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم فعاد إلى قريش قائلاً: يا معشر قريش إني قد جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل (محمد) في أصحابه، ولقد رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء قط فروا رأيكم(٣) .

وقد أعرب النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم عن احترامه للأشهر الحرم من خلال رحلة المسلمين العباديّة حيث لم يحملوا معهم سوى سلاح المسافر، كما دعا القبائل المجاورة أن يكونوا إلى جانب المسلمين في هذه الرحلة رغم أنهم لم يكونوا مسلمين مؤكداً أن العلاقة بين الإسلام وباقي القوى غير قائمة على أساس الحرب.

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٢٠ / ٢٢٩.

(٢) الطبري: ٣ / ٢١٦.

(٣) المغازي: ٢ / ٥٩٨.


واستنفر النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم ألفاً وأربعمائة مسلم ـ على أقل التقادير ـ وساق الهدي أمامه (سبعين بعيراً). وبلغ قريشاً نبأ خروج النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم والمسلمين لأداء العمرة فأصبحت قريش في ضيق من أمرها وكان أمامها طريقان: إما أن تسمح للمسلمين بأداء العمرة وبذلك يتحقق للمسلمين أملهم في زيارة البيت الحرام ويحظى المهاجرون بالاتصال بأهلهم وذويهم وربما دعوتهم إلى الإسلام، أو أن تمنع قريش المسلمين عن دخول مكة وبذلك ستتعرض مكانة قريش للاهتزاز وتكون محطّاً للوم القبائل الأُُخرى بسبب سوء معاملتها لقوم مسالمين يبتغون أداء مناسك العمرة وتعظيم الكعبة المشرفة لا غير.

لقد أبت قريش إلاّ العتو والمعاندة فأخرجت مجموعة من فرسانها تقدّر بمئتي فارس بقيادة خالد بن الوليد لمواجهة النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم والمسلمين. ولما كان النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم قد خرج محرماً لا غازياً قال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة .

ثمّ أمر بالعدول عن طريق فرسان قريش تجنباً لوقوع قتال تتخذه قريش ذريعة لصحة موقفها وفخراً لها. وأرسل النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم خراش بن أمية الخزاعي ليفاوض قريشاً في الأمر، فعقروا ناقته وكادوا أن يقتلوه. ولم ترع قريش حرمة ولاذمة للأعراف والتقاليد. ولم تلبث قريش أن كلفت خمسين رجلاً للتحرش بالمسلمين عسى أن يبدر منهم ما ينفي صفة السلم عنهم. وفشلت خطتهم وتمكن المسلمون من أسرهم فعفا رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم عنهم مؤكداً بذلك هدفه السلمي (١) .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري: ٣ / ٢٢٣.


وأراد النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن يبعث إلى قريش رسولاً آخر ـ ولم يتمكن من إرسال علي بن أبي طالب ممثلاً عنه; لأنّ علياً كان قد وتر قريش بقتل صناديدها في معارك الدفاع عن الإسلام، فانتدب عمر بن الخطاب ولكن عمر خاف من قريش على نفسه رغم أنه لم يقتل فرداً من أفرادها واقترح على النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن يرسل عثمان بن عفان(١) ; لكونه أموياً وذا قرابة مع أبي سفيان. وتأخر عثمان في العودة من قريش وأشيع خبر مقتله، فكان هذا إنذاراً بفشل كل المساعي السلمية لدخول مكة. ولم يجد الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بدّاً من التهيّؤ للقتال، وهنا كانت بيعة الرضوان إذ جلس النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات مهما كلف الأمر، وهدأ استنفار المسلمين بعودة عثمان. وأرسلت قريش سهيل بن عمرو لمفاوضة النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم .

شروط الصلح :

وبسبب تشدد (سهيل) في شروط الصلح كادت المفاوضات أن تفشل، وأخيراً تمّ الاتفاق على عدّة شروط للصلح، هي:

١ ـ تعهّد الطرفين بترك الحرب عشر سنين ، يأمن فيها الناس ويكفّ بعضهم عن بعض.

٢ ـ من أتى محمّداً من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن مع ( محمّد ) لم يردّوه عليه.

٣ ـ من أحب أن يدخل في عقد (محمّد) وعهده دخل فيه ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

٤ ـ يرجع ( محمّد ) بأصحابه إلى المدينة عامه هذا فلا يدخل مكة، وإنما

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢ / ٣١٥.


يدخل مكة في العام القادم فيقيم فيها ثلاثة أيام ليس معه سوى سلاح الراكب، والسيوف في القِرَب(١) .

٥ ـ لا يُستكره أحد على ترك دينه ويعبد المسلمون الله بمكة علانية وبحرية وأن يكون الإسلام ظاهراً بمكة وأن لا يؤذى أحد ولا يعيّر(٢) .

٦ ـ لا إسلال (سرقة) ولا إغلال (خيانة) بل يحترم الطرفان أموال الطرف الآخر(٣) .

٧ ـ لا تعين قريش على ( محمّد ) وأصحابه أحداً بنفس ولا سلاح(٤) .

ولم يرضَ نفر من المسلمين ببنود الصلح، فاعترضوا على النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم متصوّرين أنّ النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم قد تراجع أمام قريش ولم يدركوا أن النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم مسدد من الله وأنه ينظر بعين متطلّعة إلى مستقبل الرسالة الإسلامية ومصالحها العليا. وردّ النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم على المعترضين بقوله: (أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيّعني) . وأقرّ النبي ما كرهه بعض المسلمين، وجاءت قضية تسليم أبي جندل لقريش (٥) إثارة جديدة في ظرف توتّر فيه الوضع النفسي عند بعضهم.

ولكن هذا الصلح كان في الواقع فتحاً مبيناً وكبيراً للمسلمين على خلاف ما كان يبدو للبعض من ظاهر بنود الصلح ; إذ انقلبت شروط المعاهدة لصالح المسلمين بعد قليل.

وفي طريق الرجوع إلى المدينة نزلت آيات القرآن الكريم (٦) لتؤكد البعد الحقيقي للصلح مع زعيمة الوثنية، وتبشّر المسلمين بدخول مكة قريباً.

ــــــــــــ

(١) السيرة الحلبية: ٣ / ٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٢٠ / ٣٥٢.

(٣) مجمع البيان: ٩ / ١١٧.

(٤) بحار الأنوار: ٢٠ / ٣٥٢.

(٥) السيرة الحلبية: ٣ / ٢١، السيرة النبوية: ٢ / ٢١٨، بحار الأنوار: ٢٠ / ٢٥٢.

(٦) راجع سورة الفتح (٤٨): ١ ـ ٧ و ١٨ ـ ٢٨ .


نتائج صلح الحديبية :

١ ـ اعترفت قريش بكيان المسلمين كقوة عسكرية وسياسية منظمة، وكدولة حقيقية جديدة.

٢ ـ دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين وتصاغر دورهم، وظهر ضعفهم عند المواجهة.

٣ ـ أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام ودخلت قبائل كثيرة في الإسلام. وقد كان رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم يتوقّع منذ بدء حركته الرسالية الإسلامية أن تترك قريش له فرصة يعبّر فيها بحرّية عن موقفه، ويشرح الإسلام للناس بأمان.

٤ ـ أمن المسلمون جانب قريش فحوّلوا ثقلهم وجهودهم لمواجهة اليهود وسائر المناوئين.

٥ ـ جعلت مفاوضات الصلح حلفاء قريش يفقهون موقف المسلمين ويميلون إليهم.

٦ ـ مكّن الصلح النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم من أن يراسل الملوك ورؤساء الدول خارج الجزيرة لدعوتهم إلى الإسلام، وأن يستعدّ لغزوة مؤتة، كخطوة لنقل الإسلام خارج منطقة الجزيرة العربية.

٧ ـ مهّد الصلح لفتح مكة ـ الّتي كانت أهم قلاع الوثنية حين ذاك ـ في مراحل لاحقة.