واستمراراً لتوطيد علاقة المأمون بأهل البيت عليهم السلام كان تزويجه لابنته ـ أُمّ الفضل ـ من الإمام الجواد عليه السلام ، ولمّا بلغ بني العباس ذلك اجتمعوا فاحتجّوا ؛ لتخوّفهم من أن يخرج السلطان عنهم وأن ينتزع منهم ـ بحسب زعمهم ـ لباس ألبسهم الله ذلك ، فقالوا للمأمون : ننشدك الله يا أمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي قد عزمت عليه من تزويج ابن الرضا ، فإنّا نخاف أن تخرج به عنّا أمراً قد ملّكناه الله وتنزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله ، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديماً وحديثاً ، وما كان عليه الخلفاء قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم ، وقد كنّا في وهلة من عملك مع الرضا ما عملت حتى كفانا الله المهم من ذلك ، فالله الله أن تردّنا إلى غمٍّ قد انحسر عنّا واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى مَن تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره .

فقال لهم المأمون : أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى بكم وأمّا أبو جعفر محمد بن علي عليه السلام فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل الفضل في العلم والفضل مع صغر سنّه والأعجوبة فيه بذلك وأنا أرجو أن يظهر للناس ما عرفته منه(١) .

فخرجوا من عنده وأجمعوا رأيهم على مساءلة يحيى بن أكثم وهو يومئذٍ قاضي الزمان ، على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب عنها ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك واتفقوا مع المأمون على يوم تتمّ فيه المساءلة ، حيث يحضر معهم يحيى بن أكثم .

ثم كان بعد ذلك أن جلس الإمام الجواد عليه السلام يستمع إلى أسئلة

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ٢/٢٨٢ وعنه في إعلام الورى : ٢/١٠١ بلا إسناد ، وفي كشف الغمّة : ٣/١٤٤ بالإسناد .


يحيى بن أكثم والذي بهت حين سأل الإمام حول محرم قتل صيداً فما كان من الإمام عليه السلام إلاّ أن فرّع عليه سؤاله فلم يحر جواباً وطلب من الإمام عليه السلام أن يوضح ذلك والمأمون جالس يستمع إلى كل ذلك ثم نظر إلى أهل بيته وقال لهم : أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل على أبي جعفر عليه السلام وطلب منه أن يخطب ابنته فخطبها واحتفل المأمون بذلك .

ثم إنّ المأمون بعد إجراء العقد وإتمام الخطبة عاد فطلب من الإمام الجواد عليه السلام أن يكمل جواب ما طرحه مشكلاً به على ابن أكثم ، فأتمّ الإمام عليه السلام الجواب ، فالتفت المأمون إلى مَن حضره من أهل بيته فقال لهم ، هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب ؟ ويعرف القول فيما تقدّم من السؤال ؟ قالوا : لا والله ، إنّ أمير المؤمنين أعلم بما رأى .

فقال ـ المأمون ـ لهم : ويحكم إنّ أهل البيت خُصّوا من بين الخلق بما ترون من الفضل ، وإنّ صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال ومن ثمّ ذكر لهم أنّ الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم افتتح الدعوة بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو ابن عشر سنين وقبل منه الإسلام(١) .

ولا بد من الإشارة إلى أنّ هذا الاهتمام المبالغ فيه من قِبل المأمون تجاه الإمام الجواد عليه السلام كان قد سلك مثله مع أبيه الإمام الرضا عليه السلام حتى تمّ له أن دسّ له السمّ وقتله ، فكان المأمون يتحرّك إزاء الإمام عليه السلام بهدف إبعاد الإمام عليه السلام عن خاصّته وعامّة الناس ، حيث أشخصه من المدينة إلى بغداد ؛ ليكون قريباً منه وتحت رقابته وعيونه ، فيعرف الداخل عليه والخارج منه ظنّاً من المأمون أنّه سوف يتمكّن بذلك من تحجيم دور الإمام عليه السلام

ــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ٢/٢٨١ ـ ٢٨٧ وعنه في إعلام الورى : ٢/١٠١ ـ ١٠٥ ، وفي كشف الغمّة : ٣ / ١٤٣ ـ ١٤٧ .


وإبعاده عن التأثير فضلاً عن اكتساب الشرعية لحكمه من خلال وجود الإمام عليه السلام إلى جنبه ، ووفقاً لذلك كان موقف المأمون تجاه العباسيين الذين كانوا لا يرون في الإمام عليه السلام إلاّ صبيّاً لم يتفقّه في الدين ولا يعرف الحلال والحرام .

وهكذا قضى الإمام الجواد عليه السلام خمس عشرة سنة خلال حكم المأمون حيث مات المأمون سنة (٢١٨ هـ) .