لقد ابتكر المأمون وسيلة سياسية بارعة لاحتواء هذا التوجه وذلك ببيعة الإمام الرضا عليه السلام ولياً للعهد والتظاهر بموالاة أهل البيت عليهم السلام لتشويه هذا التوجه وامتصاصه.

وكان المأمون قد أنفذ إلى جماعة من آل أبي طالب، فحملهم إليه من المدينة وفيهم الرضا علي بن موسى عليهما‌ السلام ، فأخذ بهم على طريق البصرة حتى جاؤوا بهم إليه، وكان المتولي لإشخاصهم المعروف بالجَلودي.

فقدم بهم على المأمون فأنزلهم داراً، وأنزل الرضا عليّ بن موسى عليهما‌ السلام داراً، وأكرمه وعظّم أمره، ثم أنفذ إليه: أني أريد أن أاخلع نفسي من الخلافة وأقلدك إياها فما رأيك في ذلك ؟ فأنكر الرضا عليه السلام هذا الأمر وقال له:(أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الكلام، وأن يسمع به أحد) فرد عليه الرسالة: فإذا أبيت ما عرضت عليك فلا بد من ولاية العهد من بعدي فأبى عليه الرضا إباءً شديداً، فاستدعاه إليه وخلا به ومعه الفضل بن سهل ذو الرئاستين، ليس في المجلس غيرهم، وقال له:


 

 

إني قد رأيت أن أقلدك أمر المسلمين، وأفسخ ما في رقبتي وأضعه في رقبتك. فقال له الرضا عليه السلام :(الله الله يا أمير المؤمنين ، إنه لا طاقة لي بذلك ولا قوة لي عليه) ، قال له: فإني موليك العهد من بعدي فقال له:أعفني من ذلك يا أمير المؤمنين .

فقال له المأمون كلاماً فيه كالتهديد له على الامتناع عليه، وقال له في كلامه: إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة أحدهم جدك أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وشرط فيمن خالف منهم ان تُضرب عنقه، ولا بد من قبولك ما أريده منك، فإنني لا أجد محيصاً عنه، فقال له الرضا عليه السلام :(فإني أجيبك إلى ما تريد من ولاية العهد، على أنني لا آمر ولا أنهى ولا أفتي ولا أقضي ولا أُوَلّي ولا أعزل ولا أغيّر شيئاً مما هو قائم) فأجابه المأمون إلى ذلك كله.

وقد كان الإمام عليه السلام مرغَماً على قبول ولاية العهد ، أي أنه لم يكن له الخيار في رفضها فقد كان المأمون جادّاً في قتله لو تخلف عن قبول البيعة. فعن الريان بن الصلت أنه قال: دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام فقلت له: يا ابن رسول الله، إن الناس يقولون إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا ؟ فقال عليه السلام :(قد علم الله كراهتي لذلك فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول على القتل، ويحهم أما علموا أن يوسف عليه السلام كان نبياً رسولاً فلما دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز قال له: ( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان) (١) .

وروي عن أبي الصلت الهروي أنه قال: (إن المأمون قال للرضا علي بن موسى عليه السلام يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك وأراك أحق بالخلافة منّي، فقال الرضا عليه السلام :بالعبودية لله عَزَّ وجَلَّ افتخر وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شرّ الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله عَزَّ وجَلَّ .

ـــــــــ

(١) الحياة السياسية للإمام الرضاعليه‌السلام : ١٤١.


 

 

فقال له المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرضا عليه السلام :إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك . فقال المأمون: يا ابن رسول الله لا بدّ لك من قبول هذا الأمر، فقال:(لست أفعل ذلك طائعاً أبداً) . فما زال يجهد به أياماً حتى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحبّ مبايعتي لك فكن وليّ عهدي لتكون لك الخلافة بعدي. فقال الرضا عليه السلام :والله لقد حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولاً بالسم، مظلوماً تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرشيد . فبكى المأمون ثم قال له: يا ابن رسول الله ومن الذي يقتلك أو يقدر على الإساءة إليك وأنا حيّ ؟ فقال الرضا عليه السلام :أما أني لو أشاء أن أقول من الذي يقتلني لقلت . فقال المأمون: يا ابن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عن نفسك، ودفع هذا الأمر عنك، ليقول الناس إنك زاهد في الدنيا. فقال الرضا عليه السلام :والله ما كذبت منذ خلقني ربّي عَزَّ وجَلَّ وما زهدت في الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد . فقال المأمون: وما أريد ؟ قال:الأمان على الصدق ؟ قال: لك الأمان. قال:تريد بذلك أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى لم يزهد في الدنيا بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعاً في الخلافة ؟ فغضب المأمون ثم قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه. وقد أمنت سطوتي، فبالله أُقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك. فقال الرضا عليه السلام :قد نهاني الله عَزَّ وجَلَّ أن أُلقي بيدي إلى التهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك على أنّي لا أُوَلّي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقض رسماً ولا سُنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً .


 

 

فرضي منه بذلك وجعله وليّ عهد على كراهة منه عليه السلام لذلك) (١) .