إنّ إمامة الإمام المهدي عليه السلام من الحقائق الثابتة عند المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وهو المصلح الأكبر والمنقذ الأعظم للبشرية من شتّى أنواع الانحراف، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد امتلائها ظلماً وجوراً.

وقام الإمام الرضا عليه السلام بدوره ومسؤوليته في توجيه الأنظار إلى حقيقة هذا المبدأ الإسلامي المتمثّل في قضية الإمام المهدي عليه السلام ، لقرب العهد بولادته وغيبته، وقد جاءت رواياته وإخباراته مطابقة لما صدر عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم من روايات وأحاديث:

فقد قال رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم : (لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً)(1) .

____________________

(1) سنن ابي داود: 4 / 107.


كما قال صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم : (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)(1) ، وقال: (المهدي من ولد الحسين)(2) .

ووردت روايات عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم تصرّح بغيبة الإمام المهدي عليه السلام ، بقوله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم : (والذي بعثني بالحق بشيراً ليغيبنّ القائم من ولدي بعهد معهود إليه منّي، حتى يقول أكثر الناس: ما لله في آل محمد حاجة، ويشك آخرون في ولادته، فمن أدرك زمانه فليتمسك بدينه، ولا يجعل للشيطان إليه سبيلاً بشكّه...)(3) .

وقد قام الإمام الرضا عليه السلام بالترويج لهذا المبدأ الإسلامي عند المقرّبين لديه. وقد بلغت النصوص الخاصة بالإمام الرضا عليه السلام عن هذه القضية الإسلامية كما أحصاها مسند الإمام الرضا عليه السلام ستّة وثلاثين نصّاً. وإليك نماذج منها:

1 - عن أيوب بن نوح قال: قلت للرضا عليه السلام : إنا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر، وأن يردّه الله عَزَّ وجَلَّ إليك من غير سيف، فقد بويع لك، وضربت الدراهم باسمك. فقال عليه السلام : (ما منا أحد اختلفت إليه الكتب، وسئل عن المسائل، وأشارت إليه الأصابع، وحملت إليه الأموال إلا اغتيل أو مات على فراشه، حتى يبعث الله عَزَّ وجَلَّ لهذا الأمر رجلاً خفيّ المولد والمنشأ غير خفيّ في نسبه)(4) .

2 - عن محمد بن أبي يعقوب البلخي قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: (إنّه سيبتلون بما هو أشدّ وأكبر، يبتلون بالجنين في بطن أمه والرضيع، حتى يقال:

____________________

(1) سنن ابي داود: 4 / 107، سنن ابن ماجة: 2 / 1368، عقد الدرر: 42.

(2) عقد الدرر: 46، كفاية الطالب: 503.

(3) كمال الدين وتمام النعمة: 1 / 51.

(4) الكافي: 1 / 341، كمال الدين وتمام النعمة: 2 / 370.


غاب ومات، ويقولون: لا إمام...)(1) .

3 - وصرّح عليه السلام بخصوصية الإمام المهدي - عجّل الله فرجه - بأنه الثالث من ولده فقال: (كأني بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي يطلبون المرعى فلا يجدونه، فقال له علي بن الحسن بن فضّال: ولم ذلك يا ابن رسول الله؟ قال: لأنّ إمامهم يغيب عنهم... لئلا يكون في عنقه لأحد بيعة إذا قام بالسيف)(2) .

4 - ثم صرّح بأكثر من ذلك فحدّد اسمه فقال عليه السلام : (لابد من فتنة صماء صيلم يسقط فيها كل بطانة ووليجة، وذلك عند فقدان الشيعة الثالث من ولدي، يبكي عليه أهل السماء وأهل الأرض وحرّى وحرّان، وكل حزين لهفان، بأبي أنت وأمي سميّ جدّي وشبيهي وشبيه موسى بن عمران...)(3) .

وكان العباسيون يدركون أن قضيّة الإمام المهدي عليه السلام حقيقة إسلامية لابدّ منها، ويتخّوفون من زوال حكمهم على يديه، لذا كانت الروايات في شأنه في غاية السرّية والكتمان. ولعلّ إشخاصهم للائمة عليهم السلام إلى مركز حكمهم وعاصمتهم كان قائماً على أساس ترقب ولادة المهدي عليه السلام والقضاء عليه في مهده إن لم يمكنهم الحيلولة دون ولادته.

فالمأمون أشخص الإمام الرضا عليه السلام إلى خراسان، وأشخص ابنه الإمام الجواد عليه السلام أيضاً إلى بغداد بعد انتقال مركز خلافته إليها. ولعلّ تزويجه للإمام عليه السلام من ابنته كان باعتبار هذا الهدف، إضافة إلى محاولة اختلاط النسب بين العباسيين وأئمة أهل البيت عليهم السلام فضلاً عن الحضور داخل حياتهم الشخصية ليكونوا على معرفة بما يستجدّ في حياة أهل البيت عليهم السلام .

____________________

(1) بحار الأنوار: 51 / 155، عن الغيبة للنعماني.

(2) بحار الأنوار: 51 / 152.

(3) كمال الدين وتمام النعمة: 2 / 372، الفصول المهمة: 251.


وقد أشخص الحكّام من بعد المأمون الأئمة الباقين إلى مركز حكمهم كالإمام الجواد عليه السلام والإمامين الهادي والعسكري عليهما‌ السلام (1) .

ولعلّ سمّ الأئمة منهم واغتيالهم من قبل الحكّام وعمّالهم واقع في هذا الطريق، فالإمام الجواد عليه السلام مات مسموماً وعمره خمس وعشرون سنة، والإمام الهادي سُمّ وهو في الثانية والأربعين من عمره والإمام الحسن العسكري عليه السلام مات مسموماً وعمره ثمان وعشرون سنة(2) .

ويؤيّد هذا التحليل النصّ المروي عن الإمام أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام إذ قال: قد وضع بنو أُمية وبنو العبّاس سيوفهم علينا لعلّتين: أحداهما أنهم كانوا يعلمون ليس لهم في الخلافة حق فيخافون من ادّعائنا إياها، وتستقرّ في مركزها. وثانيها أنهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة على أن زوال ملك الجبابرة والظلمة على يد القائم منّا، وكانوا لا يشكّون أنهم من الجبابرة والظلمة فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى منع تولّد القائم عليه السلام أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم، إلاّ أن يتم نوره، ولو كره المشركون.

وبوجود الأئمة عليهم السلام في البلاط كان يسهل على الحكّام متابعة نشاطهم وحركتهم والتدخل في شؤونهم الخاصة؛ لذا فإن الإمام الحسن العسكري عليه السلام والد الإمام المهدي عليه السلام لم يتزوّج زواجاً عادياً ورسمياً، وحينما ولد له الإمام المهدي عليه السلام أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وشدة طلب السلطان له، واجتهاده في البحث عن أمره، لما كان قد شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه وعرف ذلك من انتظارهم له(3) .

____________________

(1) والملفت للنظر لدى الباحث التاريخي أن الأئمة من بعد الرضا عليه السلام لم يولد لهم مثل ما ولد لآبائهم من قبل، وهو شاهد على مدى تحديدهم وإحكام الرقابة عليهم، وكما أنه مؤشّر إلى تخوّف الحكّام منهم خشية من ظهور المهدي الموعود من بين أبنائهم عليهم السلام .

(2) راجع منتخب الأثر: الباب 34 من أبواب الفصل الثاني عن أربعين الخاتون آبادي.

(3) الإرشاد: 2/337 وعنه في بحار الأنوار: 50 / 334.


وهذه المواقف التي كانت تبدر من السلطة والتحفّظات الكثيرة هي التي جعلت الإمام المهدي عليه السلام يختفي دون أن تقوم السلطات باعتقاله، وهي نتيجة للتخطيط الدقيق الذي كان قد بدأه الإمام الرضا عليه السلام وتلميحاته وتصريحاته السرية في خصوص الإيمان بالمهدي عليه السلام وولادته واسمه. وقد تابع الأئمة من بعده نفس التخطيط، دون أن تشعر بهم السلطات القائمة.

وخلاصة القول: إن الإمام الرضا عليه السلام قد رسم مستقبل الرسالة بالتمهيد لها من خلال الوصية بإمامة ابنه الجواد عليه السلام ، ثمّ عليّ الهادي ثمّ الحسن العسكري ثم ابنه الإمام المهدي المنتظر؛ لتواصل الأمة ولاءها وتستمر في انتمائها الفكري والعاطفي والسلوكي.