قال المأمون للإمام الرضا عليه السلام : يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وعلمك وزهدك وورعك وعبادتك، وأراك أحقّ بالخلافة منّي.

فقال الإمام عليه السلام : (بالعبودية لله عَزَّ وجَلَّ أفتخر، وبالزهد في الدنيا أرجو النجاة من شر الدنيا، وبالورع عن المحارم أرجو الفوز بالمغانم، وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله تعالى).

فقال له المأمون: إني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك!.

فقال له الرضا عليه السلام : (إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز لك أن تخلع لباساً ألبسكه الله وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك، فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك).

فقال له المأمون: يا ابن رسول الله لا بدّ من قبول هذا الأمر.

فقال عليه السلام : (لست أفعل ذلك طايعاً أبداً).

فما زال يجهد به أيّاماً حتى يئس من قبوله، فقال له: فإن لم تقبل


الخلافة ولم تحب مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي.

ثم جرى بينهما كلام أوضح فيه الإمام دوافع المأمون من ذلك، فغضب المأمون ثم قال: إنك تتلقاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك، فإن فعلت وإلا ضربت عنقك.

فقال الإمام عليه السلام : (قد نهاني الله عَزَّ وجَلَّ أن أُلقي بيدي إلى التهلكة فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك وأنا أقبل ذلك على أن لا أولي أحداً ولا أعزل أحداً ولا أنقضنّ رسماً ولا سنة وأكون في الأمر بعيداً مشيراً)، فرضي منه بذلك وجعله وليّ عهده على كراهة منه عليه السلام لذلك(1) .

وفي رواية أخرى، أن المأمون قال له: إن عمر بن الخطاب جعل الشورى في ستة، أحدهم جدك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وشرط فيمن خالف منهم أن يضرب عنقه، ولابد من قبولك ما أريده منك، فإني لا أجد محيصاً منه(2) .

وقد صرّح الإمام عليه السلام باضطراره للقبول لمن سأله أو اعترض عليه بسبب قبوله فقال عليه السلام : (قد علم الله كراهيتي لذلك، فلما خيرت بين قبول ذلك وبين القتل أخترت القبول على القتل، ويحهم! أما علموا أن يوسف عليه السلام كان نبياً ورسولاً، فلما دفعته الضرورة إلى تولّي خزائن العزيز، قال:( اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (3) ، ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان)(4) .

وقيل له: يا ابن رسول الله ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟

____________________

(1) علل الشرايع: 237 - 238.

(2) الارشاد: 2/259، 260.

(3) يوسف (12): 55.

(4) عيون أخبار الرضا: 2 / 139.


فقال عليه السلام : (ما حمل جدي أمير المؤمنين عليه السلام على الدخول في الشورى)(1) .

والإمام عليه السلام لم يستسلم للقبول خائفاً من قتل نفسه، وإنما يكون قتله خسارة للحركة الرسالية، وإن الأُمة في تلك المرحلة بحاجة إلى قيادته في جميع مجالات الحياة، فلو قتل فإن الاضطراب والخلل سيعم قواعده الشعبية، وكذلك سيكون قتله فاتحة لقتل أهل بيته وأعوانه وأنصاره، وقد يؤدّي قتله إلى قيام ثورات مسلّحة دون تأنٍّ ورويّة، يدفعها طلب الثأر والانتقام إلى ثورة عاطفية مفاجئة دون تخطيط مسبق، وبالتالي تنهار القوة العسكرية دون أن تغيّر من الأحداث شيئاً.

نعم، هذا هو السبب الوحيد - كما يبدو - لقبول الإمام عليه السلام لولاية العهد عن إكراه واضطرار. ومن هنا فالإمام عليه السلام لا بد أن يستثمر ما يمكنه استثماره لإحياء السنن وإماتة البدع وتعبئة الطاقات وإفشال خطط المأمون المستقبلية وتصحيح ما يمكنه من أفكار ومفاهيم سياسية خاطئة.