استثمر الإمام عليه السلام أجواء وظروف الانفراج السياسي النسبي لبناء وتوسعة القاعدة الشعبية، وتسليحها بالفكر السياسي السليم المنسجم مع رؤية أهل البيت عليهم السلام ، وتعبئة الطاقات لاتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، ولهذا لم تنفجر أي ثورة علوية في هذين العهدين لعدم اكتمال العدة والعدد.

وكان الإمام عليه السلام يقدّم للأمة المفاهيم والأفكار السياسية بأسلوب حذر لكي لا يعطي للحكّام مبرراً لمنعه أو سجنه أو قتله، فقد أكّد عليه السلام على ضرورة الإمامة في كل زمن ونقل عن آبائه وأجداده الروايات التي تتعلق بهذا المفهوم السياسي الذي هو جزء من عقيدة أهل البيت عليهم السلام ، فنقل عبر السلسلة الذهبية عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أنه قال: (يدعى كل أناس بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيّهم)(1) .

وحدّد عليه السلام علامات الإمام لكي تتمكن الأُمة من تشخيص الإمام الحق في ظرف كثر فيه التدليس وقلب الحقائق فقال عليه السلام : (للإمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس...)(2) .

ويؤكّد الإمام الرضا عليه السلام على وحدة الإمامة فلابد من نصب إمام واحد غير متعدد(3) ، ويذكر العلّة من ذلك وهي توحيد جيمع الأعمال والمواقف والحيلولة دون حدوث الاضطراب في الدولة والأمة. وهذا يعني أن تعدد الأئمة مخالف لأسس العقيدة الإسلامية في السياسة والحكم، وفي هذه الحالة

____________________

(1) مناقب آل أبي طالب: 3 / 80.

(2) عيون أخبار الرضا: 1 / 213.

(3) عيون أخبار الرضا: 2 / 101.


لا بد وأن يكون أحد الأئمة إمام حق والبقية أئمة ضلالة لا تجب طاعتهم وإن كانوا في قمة السلطة الزمنية.

وقام الإمام عليه السلام بنشر الأحاديث المتعلقة بفضائل أهل البيت عليهم السلام ودورهم في الحياة الإسلامية، فقد روى عن آبائه عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أنّه قال: (مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها زج في النار)(1) .

وقال صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم : (النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأمتي)(2) .

وروى عنه صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أنه قال: (يا علي، أنت قسيم الجنة والنار...)(3) .

ووجّه عليه السلام الأنظار إلى أهل البيت عليهم السلام وإلى موقعهم القيادي في الأُمة، ثم وجّه الأنظار إلى فضائل أنصار أهل البيت عليهم السلام كعمّار وأبي ذر والمقداد وسلمان؛ ليتم تشخيص أهل الحق وأهل الباطل على طول الأجيال، فقد روى عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أنه قال، لعلي بن أبي طالب عليه السلام : (الجنّة تشتاق إليك وإلى عمّار وسلمان وأبي ذر والمقداد)(4) .

وحدّث عنه صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أنه قال: (تقتل عماراً الفئة الباغية)(5) .

كما أكّد على أهميّة ولاية أهل البيت عليهم السلام والبراءة من أعدائهم بقوله عليه السلام : (كمال الدين ولايتنا والبراءة من عدونا)(6) .

وحثّ الأُمة على تكريم ذريّة الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم بما حدّث به عن آبائه عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم أنه قال:

____________________

(1) كنز العمال: 12 / 98 ح 34170.

(2) كنز العمال: ج12، ح 34155.

(3) عوالم العلوم: 22/295، باب فضل أمير المؤمنين علي عليه السلام .

(4) سنن الترمذي: 5/594، مناقب الإمام علي عليه السلام ح 3718.

(5) كنز العمال: ج11، ح 33555.

(6) أُنس العالم للصفواني في مستطرفات السرائر: 3/640 وعنه في بحار الأنوار: 27 / 58.


(أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذرّيتي من بعدي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عند اضطرارهم إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه)(1) .

وفي خضم الأحداث الصاخبة وما طرأ من تشويه وتدليس في الحقائق والمعتقدات، بيّن الإمام عليه السلام للأمة المفهوم الحقيقي للتشيّع، وشخص النماذج المجسدة له في الواقع فقال في شيعة علي عليه السلام : (إنما شيعته الحسن والحسين وأبو ذر وسلمان والمقداد ومحمد بن أبي بكر، الذين لم يخالفوا شيئاً من أوامره، ولم يركبوا شيئاً من فنون زواجره...)(2) .

وقال عليه السلام : (شيعتنا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويحجّون البيت الحرام، ويصومون شهر رمضان، ويوالون أهل البيت ويتبرّؤن من أعدائهم، أولئك أهل الإيمان والتقى وأهل الورع والتقوى)(3) .

واستثمر الإمام عليه السلام ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام فحثّ على إحيائها إحياءً حقيقياً ينسجم مع عمق الأهداف التي ضحّى من أجلها الحسين عليه السلام ، ليتعمق الولاء العاطفي والسياسي لنهج الإمام الحسين الثوري، وإحياء الذكرى عامل من عوامل إثارة الحس الثوري المعارض للانحراف.

قال عليه السلام : (إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأسبل دموعنا وأذلّ عزيزنا... فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، فإنّ البكاء عليه يحط الذنوب العظام)(4) .

وحثّ عليه السلام على تمنّي الكون مع أصحاب الحسين عليه السلام وهو حثّ على تصعيد روح الثورة والتمرد على الواقع الفاسد، قال عليه السلام : (إن سرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لمن استشهد مع الحسين عليه السلام فقل متى

____________________

(1) عيون أخبار الرضا: 1 / 253.

(2) بحار الأنوار: 65 / 158.

(3) صفات الشيعة للصدوق: 4.

(4) مناقب آل أبي طالب: 4 / 93.


ما ذكرته: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً)(1) .

وحثّ عليه السلام على زيارة قبر الحسين عليه السلام للتزود من مواقفه الشجاعة ولتجديد العهد معه على رفض الانحراف والظلم والطغيان، قال عليه السلام : (زيارة قبر الحسين صلوات الله عليه تعدل عمرة مبرورة متقبلة)(2) .

وإقامة مراسيم العزاء وزيارة القبر الشريف هو بمثابة معارضة ولكنها سلميّة، إضافة إلى ذلك فإنه وسيلة لجمع الأنصار والموالين بأسرع الأوقات دون أن تقوم السلطة بملاحقتهم لأنّ مبرر اجتماعهم هو الحزن على الحسين عليه السلام . وفعلاً أثمر الموقف هذا، فإن الذين ثاروا فيما بعد على المأمون، انطلقوا من قبر الحسين وأعلنوا الثورة(3) .

واستطاع الإمام عليه السلام بهذا الأسلوب أن يوسع القاعدة الموالية لأهل البيت عليهم السلام دون أن تلاحقه السلطات القائمة أو تمنع نشاطه السياسي، واستطاع عليه السلام كسب عناصر جديدة مقربة للحكام من وزراء وقادة جيش وفقهاء، وكانت تصل إليه الأخبار - كما تقدم - من داخل البلاط الحاكم.

وكان عليه السلام يقود جميع خطط التحرك بسرّية تامة - كما تقدم - ولم تقم في عهد هارون وابنه محمد أيّ ثورة مسلحة، لأن أنصار أهل البيت عليهم السلام كانوا منشغلين بإعادة بناء قواتهم المسلحة بعد إخفاق الثورات السابقة كثورة صاحب فخ وغيره.

____________________

(1) بحار الأنوار: 44 / 299 عن الصدوق في أماليه وعيون أخبار الرضا عليه السلام .

(2) بحار الأنوار: 98 / 29 وفي ط 2 ج: 101/29 عن ابن قولويه في كامل الزيارات: 154 والصدوق في ثواب الأعمال: 111 - 115.

(3) بحار الأنوار: 10 / 351.


الباب الرابع:

فيه فصول:

الفصل الأول: الإمام الرضا عليه السلام وظاهرة ولاية العهد.

الفصل الثاني: نشاطات الإمام الرضا عليه السلام بعد البيعة بولاية العهد.

الفصل الثالث: مدرسة الإمام الرضا عليه السلام ، احتجاجاته وتراثه.