للتعرف على أسلوب الإمام الرضا عليه السلام في قيادة الحركة الرسالية ينبغي إلقاء صورة مختصرة واضحة عن أساليب الأئمة عليهم السلام في قيادتهم للحركة الرسالية، لنتعرف من خلالها على أساليب قيادة الإمام عليه السلام للحركة الرسالية في عصره.

إن من مسؤولية الإمام القائد هي بناء الإنسان والمجتمع بناءً عقائدياً، وخلقياً، واجتماعياً، وسياسياً، ويتم البناء عن طريق بناء قاعدة شعبية تقتدي بنهج أهل البيت عليهم السلام ونظرتهم الإسلامية إلى الكون والحياة والمجتمع، ولذلك لم يقتصر العمل على التحرك السياسي أو الوصول إلى قمة السلطة والحكومة، وإنما كان العمل السياسي جزءاً من كل، والسلطة وسيلة من وسائل تحقيق الأهداف وليست هدفاً بحد

____________________

(1) الإتحاف بحب الأشراف: 155.


ذاتها. ومن هذا المنطلق كان عمل الأئمة عليهم السلام .

وإذا سمحت الظروف للائمة الثلاث الإمام علي والحسن والحسين عليهم السلام بقيادة الحركة الرسالية بجميع مجالاتها قيادة مباشرة، فإنها قد تغيّرت في عهد الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام وبقية الأئمة عليهم السلام ، لذا نجدهم قد التجئوا إلى الإشراف غير المباشر على سير الأحداث وخصوصاً الأوضاع السياسية والعسكرية منها، فكانوا يقودون جميع خطوط الحركة الرسالية في آن واحد، دون أن تصل الحكومة إلى معرفة خطوط الحركة ونشاطاتها التنظيمية ومدى قربها وبعدها من الإمام عليه السلام ومدى إشرافه عليها.

والعوامل التي كانت تحدد أسلوب التحرك لديهم تتمثل بما يلي:

أولاً: المصلحة الإسلامية العامة.

ثانياً: المصلحة الإسلامية الخاصة بحركة أهل البيت عليهم السلام باعتبارهم مسؤولين عن إصلاح الأوضاع.

ثالثاً: الظروف العامة والخاصة من حيث قوة الحركة وقوة القاعدة الشعبية.

وبذلك فإن الأئمة عليهم السلام قد قادوا جميع النشاطات في آن واحد بما فيها الحركات المسلحة ولكن بأسلوب غير مباشر تحيطه السرّية والكتمان، من أجل أن لا يتعرض الإمام عليه السلام إلى القتل في بداية إمامته، لأنّ إصلاح الأُمة وتربيتها مقدّم على كل شيء، فلو قاد الإمام عليه السلام حركة عسكرية أو ثورية فإنه سيقتل وتبقى الأُمة بحاجة إلى من يرفدها بالفكر السليم بإعداد الفقهاء والعلماء، ومن يرفدها ببناء طليعة من العبّاد والزهاد والسياسيين وقادة الحركات الثورية.

وبتعبير آخر: إنّ الإمام عليه السلام كان يقود خطين من خطوط


العمل الرسالي:

الخط الفكري: ومهمّته طلب العلم ونشره، وأداء مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأسلوب هادئ سلميّ.

خط المواجهة: ومهمّته إعلان التمرد على الحكومات الجائرة، واستخدام القوة لإيقاف انحرافها عن النهج الإسلامي الأصيل.

وهذا الأسلوب يتّضح من خلال سيرة الأئمة عليهم السلام ، فالإمام زين العابدين عليه السلام بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وسبي نسائه اتّبع هذا الأسلوب، لأنّ الظروف السياسية قد تغيّرت، إضافة إلى توسّع القاعدة الشعبية لأهل البيت عليهم السلام واختلاف أتباعه وأنصاره في قدراتهم وطاقاتهم. فالتوّابون ثاروا في عهده، ولكن لم تحصل الحكومة الأموية على دليل واحد تثبت فيه علاقة الإمام عليه السلام بهم، وثار المختار في عهده، وفاتحه عمّه محمد بن الحنفية حول تأييده للثورة، فقال عليه السلام : (يا عم لو أنَّ عبداً زنجياً تعصّب لنا أهل البيت، لوجب على الناس مؤازرته، وقد ولّيتك هذا الأمر، فاصنع ما شئت)(1) . وقد كان هذا التخطيط سرّياً للغاية ولم يتسرّب إلاّ إلى بعض أتباع أهل البيت عليهم السلام .

وحينما جاء البعض إلى محمد بن الحنفية حثّهم على الاشتراك مع المختار، وأرسل كتاباً إلى إبراهيم الأشتر يحثّه على ذلك(2) .

وحينما حاصر عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية وتوعّده بالقتل

____________________

(1) رسالة ذوب النُضّار في شرح الثار لجعفر بن نما الحلي رواية عن والده محمد بن نما، وعنه في بحار الأنوار: 45 / 363 - 364.

(2) الكامل في التاريخ: 4 / 214 - 215.


والإحراق كتب إلى المختار طالباً نجدته فأرسل له المختار جيشاً فأنقذه ممّا هو فيه(1) .

وتدلّنا هذه الوقائع على أن الإمام زين العابدين عليه السلام قد عيّن ابن الحنفية قائداً للخط والجناح العسكري، وكانت الأوامر تصدر منه مباشرة وليست من الإمام عليه السلام .

وحينما سيطر المختار على الكوفة وانتهت سيطرة الأمويين على العراق والحجاز وبعض الأمصار أعلن الإمام عليه السلام عن ثنائه على المختار لبعض المقرّبين إليه فقال: (الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى المختار خيراً)(2) .

وفي الوقت نفسه كان الإمام عليه السلام قد أرفد الأُمة بعدد من العلماء والفقهاء والرواة، كعبد الله بن الحسن، والزهري، وعمرو بن دينار، وعلي بن زيد بن جدعان، ويحيى بن أم الطويل(3) .

واستمر الإمام بأعداد القادة للمرحلة القادمة، فقد أعدّ ابنه محمداً الباقر عليه السلام للإمامة والقيادة العامة، وأعدّ ابنه زيداً لقيادة الثورة والحركة المسلحة.

وحينما أراد زيد الخروج أتى إلى الإمام محمد الباقر عليه السلام للقيام بالثورة أجابه عليه السلام : (لا تفعل يا زيد فإني أخاف أن تكون المقتول المصلوب بظهر الكوفة)(4) ، ولم يخرج زيد في عهده.

____________________

(1) الكامل في التاريخ: 4/250 - 251.

(2) رجال الكشي: 127 ح 203.

(3) سير أعلام النبلاء: 4 / 391.

(4) الخرائج والجرائح: 1 / 281.


وزيد معترف بإمامة الباقر عليه السلام ومن بعده الإمام جعفر الصادق عليه السلام كما يظهر ذلك في شعره التالي:

ثوى باقر العلم في ملحد

إمام الورى طيّب المولد

فمن لي سوى جعفر بعده

إمام الورى الأوحد الأمجد (1)

وتصريح الإمام الباقر عليه السلام حول نصرة زيد شاهد على أن الأئمة عليهم السلام كانوا يقودون الخط العسكري بصورة غير مباشرة. قال عليه السلام : (إن أخي زيد بن علي خارج فمقتول على الحق، فالويل لمن خذله، والويل لمن حاربه، والويل لمن يقتله)(2) .

وفي عهد الإمام الصادق عليه السلام جاءته جماعة قبل خروج زيد فأخبرته ببيعة زيد، فقال عليه السلام : (بايعوه)(3) .

وكان عليه السلام يقول: (أشركني الله في تلك الدماء مضى والله عمّي زيد وأصحابه شهداء مثل ما مضى عليه علي بن أبي طالب وأصحابه)(4) .

وكان الثوّار لا يحدّدون اسم الإمام القائد وإنّما يكتفون بالدعوة إلى الرضى من آل محمد صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ؛ لأن الظروف كانت تستوجب عدم التصريح، وكان الإمام عليه السلام يحذّر أصحابه من الخروج مع غير المرتبطين به وكان يقول: (إذا أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شيء تخرجون؟ ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنما دعاكم إلى الرّضى من آل محمد صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه...)(5) .

____________________

(1) مناقب آل أبي طالب: 4/213 وعنه في بحار الأنوار: 46 / 296.

(2) مقتل الحسين للخوارزمي: 2 / 113.

(3) الكامل في التاريخ: 5 / 243.

(4) عيون أخبار الرضا: 1 / 253.

(5) فروع الكافي: 8 / 264.


والخط العسكري هو درع الأئمة من جهتين:

الأولى: الاحتفاظ بالحالة الثورية للمجتمع كي تبقى مستعدة للقيام والتضحية.

الثانية: انه من خلاله يمكن الاستمرار في العمل الإصلاحي. وبانشغال الحاكم بمطاردة أتباع هذا الخط يكون المجال مفتوحاً لجميع الأعمال غير العسكرية، ويضمن وجوده سلامة أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم، لأن الحاكم يخشى من تشديد الملاحقة والإرهاب الذي قد يؤدي إلى انخراط الجميع في الخط العسكري، فكان يعطي قدراً من الحرية لمن لا يحمل السلاح ويتظاهر بطلب العلم أو التجارة أو غير ذلك.

وقد عبّر الإمام الصادق عليه السلام عن هذه الظاهرة بقوله: (كفّوا ألسنتكم والزموا بيوتكم، فإنّه لا يصيبكم أمر تخصّون به أبداً، ولا تزال الزيدية لكم وقاءً أبداً)(1) .

ويبقى الإشراف على الخط العسكري من قبل الإمام عليه السلام في طي الكتمان، وفي أقصى غايات السرّية، ولا يطّلع عليه إلا من له دور مؤثر في العمل الرسالي، ولم تستطع السلطة كشف العلاقة بين الثوار والإمام من حيث التخطيط والتنسيق والتنفيذ إلاّ إنها كانت تتهم الإمام المعصوم عليه السلام بإسناد الثورات أو تحريكها ولكن لا دليل لها عليه، وكان أبو جعفر المنصور يقول: من يعذرني من جعفر هذا؟ قدّم رِجلاً وأخّر أخرى، ويقول: اتنحّى عن محمد ابن عبد الله بن الحسن فإن ظفر فإنّما الأمر لي، وإن تكن الأخرى فكنت قد أحرزت نفسي(2) .

وكان قادة الخط العسكري لا يصرّحون بذكر اسم الإمام عليه السلام وإنما

____________________

(1) أصول الكافي: 2 / 225.

(2) مهج الدعوات: 188 وعنه في بحار الأنوار: 47 / 192.


يلمّحون بذلك أمام أتباعهم، فعن الحسين بن علي صاحب فخّ ويحيى بن عبد الله بن الحسن قالا: ما خرجنا حتى شاورنا أهل بيتنا، وشاورنا موسى بن جعفر فأمرنا بالخروج(1) .

وكان الإمام الكاظم عليه السلام يقول للحسين بن علي: (إنّك مقتول فأحدّ الضراب... فانّا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله عَزَّ وجَلَّ احتسبكم من عصبة)(2) .

وكان الحاكم العباسي موسى الهادي يهدّد بقتل الإمام الكاظم عليه السلام ويقول: والله ما خرج حسين إلا عن أمره، ولا اتّبع إلاّ محبته؛ لأنّه صاحب الوصية في أهل هذا البيت، فقتلني الله إن أبقيت عليه، فأقنعه أبو يوسف القاضي بعدم صحة ذلك، فسكن غضبه(3) .

واتّبع الإمام الرضا عليه السلام نفس الأسلوب في التحرك الرسالي فكان يقود جميع الخطوط في آن واحد دون أن تعلم السلطة بخفايا التحرك العسكري حيث كان محاطاً بسريّة تامة يصعب التعرف على خصوصياته.

إنّ تأكيد المأمون فيما بعد على أن ينزل الإمام الرضا عليه السلام عند رغبة المأمون في قضية ولاية العهد تعتبر شاهداً على مخاوف المأمون من تحرّكات العلويين ويكون قبول الإمام لولاية العهد خطوة لاستيعاب هذه الحركات التي ترى في الإمام قدوة لها وبذلك سوف يفقد العلويون مبرّرات المعارضة للحكم الذي يكون الإمام فيه وليّاً للعهد.

____________________

(1) مقاتل الطالبيين: 383.

(2) مقاتل الطالبيين: 376.

(3) مهج الدعوات: 217 وعنه في بحار الأنوار: 48 / 151.