النشاط العام للإمام الكاظم عليه السلام

كان الغالب على حياة الإمام موسى الكاظم عليه السلام عدم الانفتاح على الأُمة في حركته العامة.

وجاءت هذه المحدودية في الانفتاح على الأُمة بسبب تشدّد الخلفاء العباسيين ومراقبة أجهزتهم التجسسية له التي كانت تشك في أيّ حركة تصدر منه عليه السلام .

ومع ذلك فقد تنوّعت نشاطات الإمام في مجالات شتّى يمكن أن نشير إليها فيما يلي:

قام الإمام عليه السلام بتوضيح موقفه تجاه الخلفاء والخلافة للأمة، وان كلفه الموقف ثمناً قد يؤدّي بحياته.

لقد كان هذا التحرك من الإمام عليه السلام لئلا يتسرّب الفهم الخاطئ للنفوس ويكون تقريراً منه للوضع الحاكم أو يُتخذ سكوته ذريعة لتبرير المواقف الانهزامية.

من هنا نجد للإمام عليه السلام المواقف التالية:

الموقف الأول: لقد ذكرنا بأن المهدي العباسي عند تسلّمه زمام الحكم من أبيه المنصور أبدى سياسة مرنة مع العلويين أراد بها كسبهم وحاول أن ينسب من خلالها المظالم العبّاسية إلى العهد البائد، ويوحي من جانب قوة الخلافة وشرعيتها وعدالتها عندما أعلن إعادة حقوق العلويين لهم وأصدر عفواً عاماً للمسجونين، وأرجع أموال الإمام الصادق عليه السلام إلى الإمام الكاظم عليه السلام .

من هنا وجد الإمام عليه السلام فرصته الذهبية لاستغلال هذه البادرة فبادر بمطالبة المهدي بإرجاع فدك باعتبارها تحمل قيمة سياسية ورمزاً للصراع التأريخي بين خط السقيفة وخط أهل البيت عليهم السلام .


فدخل على المهدي فرآه مشغولاً بردّ المظالم فقال له الإمام عليه السلام : (ما بال مظلمتنا لا ترد ؟! فقال المهدي: وما ذاك يا أبا الحسن ؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا فتح على نبيّه صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فأنزل الله على نبيه صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم :( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ) (١) فلم يدر رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم من هم ؟ فراجع في ذلك جبرئيل وراجع جبرئيل عليه السلام ربّه فأوحى الله إليه : أنْ ادفع فدك إلى فاطمةعليها‌السلام .

فدعاها رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم فقال لها: يا فاطمة ، إنّ الله أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك. فلم يزل وكلاؤها فيها في حياة رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ، فلمّا ولّى أبو بكر أخرج عنها وكلاءها فأتته فسألته أن يردّها عليها فقال لها: ائتيني بأسود أو أحمر يشهد بذلك، فجاءت بأمير المؤمنين عليه السلام وأم أيمن فشهدا لها، فكتب لها بترك التعرّض فخرجت والكتاب معها. فلقيها عمر فقال: ما هذا معك يا بنت محمد؟ قالت: كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة، قال: أرينيه فأبت، فانتزعه من يدها ونظر فيه ثم تفل فيه ومحاه وخرقه، فقال لها: هذا لم يوجف عليه أبوك بخيل ولا ركاب فضعي الجبال في رقابنا.

فقال له المهدي: حدّها لي.

فقال عليه السلام :حدّ منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحدّ منها دومة الجندل .

فقال المهدي: كل هذه حدود فدك ؟ !

فقال له الإمام عليه السلام :نعم يا أمير المؤمنين هذا كلّه، إنّ هذا كله ممّا لم يوجف أهله على رسول الله بخيل ولا ركاب .

ــــــــــــ

(١) الإسراء (١٧): ٢٦.


فتغيّر المهدي وبدا الغضب على وجهه حيث أعلن له الإمام عليه السلام أنّ جميع أقاليم العالم الإسلامي قد أخذت منهم، فانطلق قائلاً: هذا كثير وأنظر فيه)(١) .

الموقف الثاني: في هذه المرحلة كان الإمام عليه السلام حريصاً على تماسك الوجود الشيعي في وسط المجتمع الإسلامي ووحدة صفه، لأن الظروف الصعبة، تشكّل فرصة لنفوذ النفوس الضعيفة والحاقدة بقصد التخريب.

وظاهرة القرابة والمحسوبية كانت أهم الركائز التي اعتمد عليها بناء الحكم العبّاسي، وكانت هي الحاكمة فوق كل المقاييس.

لذا نجد موقف الإمام عليه السلام من خطورة هذه الظاهرة كان حاسماً، إذ نراه يعلن عن مقاطعة عمّه محمّد بن عبد الله الأرقط أمام الناس تطهيراً للوجود الشيعي من أيّ عنصر مضر مهما كان نسبه قريباً من الإمام عليه السلام ، فلم يسمح له بالتسلق وصولا للمواقع أو استغلالاً لها.

فعن عمر بن يزيد قال: كنت عند أبي الحسن عليه السلام فذكر محمد بن عبد الله الأرقط فقال: (إني حلفت أن لا يظلّني وإيّاه سقف بيت . فقلت في نفسي: هذا يأمر بالبرّ والصلة ويقول هذا لعمّه !

قال: فنظر إليَّ فقال:هذا من البر والصلة، إنّه متى يأتيني ويدخل عليّ فيقول

ــــــــــــ

(١) أصول الكافي: ١ / ٥٤٣ ح٢ ، بحار الأنوار: ٤٨ / ١٥٦. ونقل السبط في تذكرة الخواص: ٣١٤ عن ربيع الأبرار للزمخشري: أن ذلك لم يكن من المهدي بل من هارون كان يقول لموسى الكاظم: خذ فدكاً، وهو يمتنع ويقول: إنّ حددتها لم تردها؟ ، فلمّا ألحّ عليه قال: ما أخذها إلاّ بحدودها ، قال: وما حدودها؟ فقال... فعند ذلك استلفى أمره وعزم على قتله.


يصدّقه الناس وإذا لم يدخل عليّ، لم يقبل قوله إذا قال )(١) .

وزاد في رواية إبراهيم بن المفضّل بن قيس:(فإذا علم الناس أن لا أُكلّمه لم يقبلوا منه وأمسك عن ذكرى فكان خيراً له) (٢) .

الموقف الثالث: هو موقف الإمام الكاظم عليه السلام من ثورة الحسين بن علي ابن الحسن ـ صاحب ثورة فخ ـ بن الحسن المثنى بن الحسن المجتبى عليه السلام .

إن الإمام الكاظم عليه السلام بالرغم من امتداد شيعة أبيه في أرجاء العالم الإسلامي لم يعمل في هذه المرحلة بصيغة المواجهة المسلّحة طيلة أيام حياته، حتى أعلن عن موقفه هذا من حكومة المهدي عندما حبسه المهدي ورأى الإمام علياً عليه السلام في عالم الرؤيا وقصّ رؤياه على الإمام عليه السلام وقرر إطلاق سراحه، قال له: أفتؤمنني أن تخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ فقال الإمام عليه السلام :(والله لا فعلت ذلك ولا هو من شأني) (٣) .

وهذا الموقف للإمام عليه السلام بقي كما هو مع حكومة موسى الهادي لأسباب موضوعية سبقت الإشارة إلى بعضها إلاّ أن الإمام عليه السلام مارس دور الإسناد والتأييد لثورة الحسين ـ صاحب فخ ـ من أجل تحريك ضمير الأُمة والإرادة الإسلامية ضد التنازل المطلق عن شخصيتها وكرامتها للحكام المنحرفين.

ولمّا عزم الحسين على الثورة قال له الإمام عليه السلام :(إنّك مقتول فأحدّ الضراب فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويضمرون نفاقاً وشركاً فإنّا لله وإنّا إليه راجعون

ــــــــــــ

(١) بحار الأنوار: ٤٨ / ١٦٠ عن بصائر الدرجات: ٦٤ ب ١٠ ح ٥.

(٢) بحار الأنوار: ٤٨ / ١٥٩ عن قرب الاسناد: ٢٣٢ ح ١١٧٤.

(٣) تاريخ بغداد، وعنه في تذكرة الخواص: ٣١١ ومطالب السؤول لابن طلحة الشافعي: ٨٣ وعن الجنابذي في كشف الغمة: ٣/٢ ـ ٣ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨/١٤٨ ح ٢٢.


وعند الله أحتسبكم من عُصبة) (١) .

ولمّا سمع الإمام الكاظم بمقتل الحسين رضي الله عنه بكاه وأبّنه بهذه الكلمات:(إنّا لله وإنا إليه راجعون ، مضى والله مسلماً صالحاً، صوّاماً قوّاماً، آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر، ما كان في أهل بيته مثله) (٢) .