ركّز الإمام موسى الكاظم عليه السلام على مسألة القيادة والولاية الشرعية المتمثّلة بالإمام المعصوم والموقف من القيادة السياسية المنحرفة، وتعريف الخواص بالإمامة والقيادة الحقة عبر أساليب تربويّة.

وفي هذا الاتجاه قام الإمام عليه السلام تعميقاً لهذا المعنى ـ بعدة نشاطات:

النشاط الأوّل: في المجال الفكري

فقد عمق الإمام عليه السلام الأسس والثوابت العقائدية والفكرية التي أسس لها الأئمة عليهم السلام من قبله، والتي تشكّل تحصينات وقائية تطرد بدورها الفكر المضاد والدخيل الذي تعتمده الخلافة العباسية في نظرية الحكم والتي تحاول به الخلط بين ما هو أصيل ودخيل بهدف تضليل الأمة بعد ما رفعت شعار الدعوة إلى الرضا من آل محمّد.

لذا أعطى الإمام عليه السلام مقياساً واضحاً تميّز به الأمة وتطبقه على كل من يدّعي القيادة والخلافة الشرعية.

فعن أبي بصير عن أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: دخلت عليه فقلت له: جعلت فداك بم يعرف الإمام؟ فقال:(بخصال: أمّا أوّلهن فشيء تقدم من أبيه فيه، وعرّفه الناس، ونصّبه لهم علماً، حتى يكون حجّة عليهم؛ لأن رسول الله نصّب علياً عليه السلام علماً وعرّفه الناس، وكذلك الأئمة يعرّفونهم الناس وينصبونهم لهم حتى يعرفوه، ويسأل فيجيب، ويسكت عنه فيبتدي، ويخبر الناس بما في غد، ويكلّم الناس بكلّ لسان) (١) .

ــــــــــــ

(١) قرب الإسناد: ٢٦٥ ح ١٢٦٣، وأصول الكافي: ١/٢٨٥ ح ٧، والإرشاد: ٢/٢٢٤، ودلائل الإمامة: ١٦٩ وعن الإرشاد في إعلام الورى: ٢/٢٢، وفي بحار الأنوار: ٤٨/٤٧ ح ٣٣ عن قرب الإسناد والإرشاد والإعلام والخرائج.


 

 

وجاء عن أبي خالد الزبّالي أنه قال: (نزل أبو الحسن عليه السلام (موسى الكاظم) منزلنا في يوم شديد البرد في سنة مجدبة، ونحن لا نقدر على عود نستوقد به فقال:يا أبا خالد ائتنا بحطب نستوقد به .

قلت: والله ما أعرف في هذا الموضع عوداً واحداً.

فقال:كلاّ يا أبا خالد! ترى هذا الفجّ؟ خذ فيه فإنك تلقى أعرابياً معه حملان حطباً فاشترهما منه ولا تماسكه .

قال: فركبت حماري وانطلقت نحو الفجّ الذي وصف لي فإذا أعرابي معه حملان حطباً فاشتريتهما منه وأتيته بهما، فاستوقدوا منه يومهم ذلك. وأتيته بطرف ما عندنا فطعم منه.

ثم قال:يا أبا خالد! انظر خفاف الغلمان ونعالهم فأصلحها حتى نقدم عليك في شهر كذا وكذا .

قال أبو خالد: فكتبت تاريخ ذلك اليوم فركبت حماري في اليوم الموعود حتى جئت إلى لزق ميل(١) ونزلت فيه فإذا أنا براكب مقبل نحو القطار فقصدت إليه فإذا يهتف بي ويقول:يا أبا خالد! قلت: لبيك جعلت فداك. قال:أتراك وفيناك بما وعدناك؟ ثم قال:يا أبا خالد! ما فعلت بالقبتين اللتين كنا نزلنا فيهما؟ فقلت: جعلت فداك قد هيأتهما لك. وانطلقت معه حتى نزل في القبتين اللتين كان نزل فيهما.

ــــــــــــ

(١) اللزق بالكسر: اللصق يقال (هو بلزقي) أي بجنبي.


 

 

ثم قال:ما حال خفاف الغلمان ونعالهم؟ قلت: قد أصلحناها فأتيته بهما. فقال عليه السلام :يا أبا خالد سلني حاجتك؟ فقلت: جعلت فداك أخبرك بماكنت فيه. كنت زيدي المذهب حتى قدمت عليّ وسألتني الحطب، وذكرت مجيئك في يوم كذا، فعلمت أنك الإمام الذي فرض الله طاعته. فقال عليه السلام :يا أبا خالد من مات لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية وحوسب بما عمل في الإسلام )(١) .

النشاط الثاني: في المجال العملي

كان الإمام عليه السلام يحاسب شيعته وأتباعه المتعاطفين مع الحكّام والولاة ولا يسمح لهم بالانخراط في دائرة الظالمين وأعوان الظالمين إلاّ في موارد خاصة كان هو الذي يأمر بها ويشرف على سيرها وتصرّفاتها.

قال زياد بن أبي سلمة دخلت على أبي الحسن موسى عليه السلام فقال لي:يا زياد، إنك لتعمل عمل السلطان ؟ قال: قلت أجل: قال لي:ولم؟! قلت: أنا رجل لي مروّة وعليّ عيال وليس وراء ظهري شيء. فقال لي:يا زياد لان أسقط من على حالق (المكان الشاهق)فأقطّع قطعة قطعة، أحب إليّ من أن أتولّى لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم، إلاّ ، لماذا ؟ قلت: لا أدري جعلت فداك. قال:إلاّ لتفريج كربة عن مؤمن، أو فكّ أسره، أو قضاء دينه.

ــــــــــــ

(١) مناقب آل أبي طالب: ٤/٣١٩ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ٧٧.


 

 

يا زياد! إنّ أهون ما يصنع الله بمن تولّى لهم عملاً أن يضرب عليه سرادقاً من نار إلى أن يفرغ من حساب الخلائق. يا زياد! فان وليت شيئاً من أعمالهم، فأحسن إلى إخوانك، فواحدة بواحدة والله من وراء ذلك. يا زياد! أيّما رجل منكم تولى لأحد منهم عملاً، ثم ساوى بينكم وبينهم، فقولوا له: أنت منتحل كذاب. يا زياد! إذا ذكرت مقدرتك على الناس فاذكر مقدرة الله عليك غداً ونفاذ ما أتيت إليهم عنهم، وبقاء ما أتيت إليهم عليك) (١) .

ويأتي إخبار الإمام الكاظم عليه السلام بأمور مستقبليّة ـ مثل إخباره بموت المنصور قبل تحقّقه وهو في أوج قدرته ـ دليلاً عمليّاً وحسيّاً آخر على مبدأ إمامته، فضلاً عن ما يفرزه هذا الإخبار بالمستقبل من آمال بانفراج الأزمة التي كانت تتمثّل في عتوّ المنصور وجبروته.

الإمام موسى بن جعفر عليه السلام يخبر بموت المنصور

وأراد أبو جعفر المنصور الذهاب إلى مكة ـ وذلك قبيل وفاته ـ فأخبر الإمام عليه السلام بعض خواص الشيعة بموته قبل أن يصل إليها. وفعلاً مات قبل الوصول إليها كما أخبر به الإمام عليه السلام .

قال علي بن أبي حمزة: سمعت أبا الحسن موسى عليه السلام يقول: (لا والله لا يرى أبو جعفر بيت الله أبداً . فقدمت الكوفة فأخبرت أصحابنا، فلم نلبث أن خرج فلمّا بلغ الكوفة قال لي أصحابنا في ذلك فقلت: لا والله لا يرى بيت الله أبداً. فلما صار إلى البستان اجتمعوا أيضاً إليَّ فقالوا: بقي بعد هذا شيء ؟ قلت: لا والله لا يرى بيت الله أبداً.

ــــــــــــ

(١) الكافي: ٥ / ١٠٩ ـ ١١٠ وعنه في بحار الأنوار: ٤٨ / ١٧٢.


 

 

فلما نزل بئر ميمون أتيت أبا الحسن عليه السلام فوجدته في المحراب قد سجد فأطال السجود ثم رفع رأسه إليَّ فقال:اخرج فانظر ما يقول الناس . فخرجت فسمعت الواعية على أبي جعفر فأخبرته. قال:الله أكبر ! ما كان ليرى بيت الله أبداً )(١) .

وهكذا انتهت حياة المنصور العبّاسي واستولى على الحكم من بعده ابنه المهدي وذلك في سنة (١٥٨ هـ) ، وبذلك بدأ عهد سياسي جديد له ملامحه وخصائصه. وسوف نرى مواقف الإمام الكاظم عليه السلام الرساليّة في هذا العهد الجديد.