كان النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم لا يدّخر وسعاً ولا يتوانى في السعي لنشر الرسالة الإسلامية ودعوة أي عنصر يرى فيه الأمل والخير أو يجد فيه التأثير والنفوذ ممن كان يقدم إلى مكة لحاجة ما. وقد كانت مدينة يثرب تعيش صراعاً سياسياً وعسكرياً بين أقوى قطبين فيها وهما الأوس والخزرج، وكان يؤجج هذا الصراع عناصر من اليهود ـ بخبثهم ودسائسهم ـ في جو من ضياع القانون الإلهي.

والتقى النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم مع بعض شخصيات يثرب ممن جاء يبحث عن

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٢٧٠.


تحالف يزيد قوته، فما برحوا حتى تغلغل أثر الرسالة وصدق النبوة في نفوسهم، ففي إحدى اللقاءات تحدث النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم إلى جماعة من بني عفراء ـ وهم ينتسبون إلى الخزرج ـ فعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم شيئاً من القرآن، فوجد في عيونهم التجاوب وفي قلوبهم اللهفة لسماع المزيد من الآيات... وتأكدوا من حديث النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أنه هو النبي الذي يقصده اليهود حينما كانوا يتوعدون به المشركين في يثرب كلما وقع شر بينهم فيقولون لهم: إن نبياً قد بعث الآن وقد أطلّ زمانه وسنتبعه ونقتلكم قتل عاد وإرم(١) .

فأعلنوا في الحال إسلامهم وكانوا ستة أشخاص وقالوا للنبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم وعسى الله أن يجمعهم بك وسنقدم عليهم وندعوهم إلى أمرك وإلى الدين الذي أجبناك عليه.

ثم انصرفوا راجعين إلى يثرب وشرعوا يتحدثون عن النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم والرسالة والأمل القادم لبناء حياة يسودها الأمن والسعادة، حتى فشا أمر الرسالة الإسلامية بينهم ولم يبق دار من دور يثرب إلاّ وفيها ذكر لرسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم (٢) .

وما أسرع ما انقضت الأيام فلما كان موسم الحج للعام الحادي عشر من البعثة النبوية قدم وفد من أوس يثرب وخزرجها ـ وهم اثنا عشر رجلاً ـ من بينهم الستة الذين أسلموا من قبل والتقوا برسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم سراً في العقبة ـ وهي المنفذ الذي يجتازه القادمون من يثرب صوب مكة ـ وأعلنوا هذه المرة بيعتهم للنبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم على أن لا يشركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم ولا يعصوه في

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٤٢٨، بحار الأنوار: ١٩ / ٢٥.

(٢) تاريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٧ ـ ٣٨، السيرة النبوية: ١ / ٤٢٩، بحار الأنوار: ١٩ / ٢٣.


معروف(١) .

ولم يشأ النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن يحملهم أكثر من ذلك، وأرسل معهم الشاب المسلم مصعب بن عمير إلى يثرب لكي يتولى شؤون التبليغ والتثقيف العقائدي بينهم، وبذا تمّت بيعة العقبة الأولى.