والتفت الإمام في تلك المرحلة لأهمّية الاختصاص ودوره في إنماء الفكر الإسلامي وتطويره ، وقدرته في استيعاب الطاقات الكثيرة الوافدة على مدرسته ، وبالتخصّص تتنوّع عطاءاته ، فيكون الإبداع أعمق نتاجاً وأكثر احتواءً ؛ لذا وجّه الإمام عليه السلام طلاّبه نحو التخصّصات العلمية ، وتصدّى بنفسه

ـــــــــــــــــ

(١) وسائل الشيعة : ٨ / ٥٧ ـ ٥٩ .

(٢) أصول الكافي : ١ / ٥٢ .

(٣) وسائل الشيعة : ١٨ / ٥٧ ـ ٥٩ .


للإشراف ، فكان يعالج الإشكالات التي تستجد ، ويدفع مسيرة الحركة العلمية إلى الأمام ولا يمكن في هذا البحث أن نستوعب كل هذه التخصّصات وإنّما نقتصر على ذكر بعض النماذج فيما يأتي :

أ ـ في الطب : سُئل الإمام عن جسم الإنسان فقال عليه السلام :( إنّ الله خلق الإنسان على اثني عشر وصلاً وعلى مائتين وثمانية وأربعين عظماً ، وعلى ثلاثمائة وستين عرقاً ، فالعروق هي التي تسقي الجسد كلّه ، والعظام تمسكه واللحم يمسك العظام والعصب تمسك اللحم ، وجعل في يديه اثنين وثمانين عظماً في كل يد إحدى وأربعين عظماً ، منها في كفّه خمسة وثلاثون عظماً وفي ساعده اثنان ، وفي عضده واحد ، وفي كتفه ثلاثة ، فذلك إحدى وأربعون ، وكذلك في الأخرى ، وفي رجله ثلاثة وأربعون عظماً ، منها في قدمه خمسة وثلاثون عظماً وفي ساقه اثنان ، وفي ركبتيه ثلاثة ، وفي فخذه واحد وفي وركه اثنان وكذلك في الأخرى ، وفي صلبه ثماني عشر فقارة وفي كل واحد من جنبيه تسعة أضلاع ، وفي وقصته ثمانية وفي رأسه ستة وثلاثون عظماً ، وفي فيه ثماني وعشرون عظماً أو اثنان وثلاثون عظماً ) (١) .

يقول الشيخ ميرزا محمد الخليلي : ولعمري إنّ هذا الحصر والتعداد هو عين ما ذكره المشرّحون في هذا العصر ، لم يزيدوا ولم ينقصوا(٢) .

وشرح الإمام الصادق عليه السلام كيفية دوران الدم في الجسم ولأول مرّة في حديثه مع المفضّل بن عمر ، وقد سبق بذلك العالم ( هارفي ) الذي عرف بأنّه مكتشف الدورة الدموية .

قال عليه السلام :( فكّر يا مفضّل في وصول الغذاء إلى البدن وما فيه من التدبير ، فإنّ

ـــــــــــــــــ

(١) المناقب : ٤ / ٢٥٦ ، وبحار الأنوار : ١٤ / ٤٨٠

(٢) طب الإمام الصادق عليه السلام : ٣ .


الطعام يصير إلى المعدة فتطبخه ، وتبعث بصفوه إلى الكبد في عروق رقاق واشجة بينها ، قد جعلت كالمصفى للغذاء ، لكيلا يصل إلى الكبد منه شيء فينكأها ؛ وذلك أنّ الكبد رقيقة لا تحتمل العنف ، ثم إنّ الكبد تقبله فيستحيل فيها بلطف التدبير دماً ، فينفذ في البدن كلّه ، في مجار مهيّأة لذلك بمنزلة المجاري التي تهيّأ للماء حتى يطّرد في الأرض كلّها وينفذ ما يخرج منه من الخبث والفضول إلى مغايض أعدّت لذلك فما كان منه من جنس المرّة الصفراء جرى إلى المرارة ، وما كان من جنس السوداء جرى إلى الطحال ، وما كان من جنس البلّة والرطوبة جرى إلى المثانة ؛ فتأمّل حكمة التدبير في تركيب البدن ، ووضع هذه الأعضاء منه موضعها ، وإعداد هذه الأوعية فيه لتحمل تلك الفضول لئلاّ تنتشر في البدن فتسقمه وتنهكه ، فتبارك مَن أحسن التقدير وأحكم التدبير ) (١) .

ب ـ في الوقاية الصحية : حذّر الإمام من الأمراض المعدية وأوصى بعدم الاختلاط بالمصابين بمثل مرض الجذام حيث قال فيه :( لا يكلّم الرجل مجذوماً إلاّ أن يكون بينهما قدر ذراع ) (٢) ، وقد جاء في الطب الحديث أنّ ميكروب الجذام ينتشر في الهواء حول المصاب أكثر من مسافة متر .

وقال عليه السلام أيضاً :( كُلّ داء من التخمة ) (٣) .

وقال عليه السلام :( اغسلوا أيديكم قبل الطعام وبعده ) (٤) فإنّ غسل اليدين قبل الطعام تعقيم من الجراثيم المحتملة والغسل بعد الطعام يعدّ من النظافة .

ج ـ علم الحيوان : قال عليه السلام في مملكة النمل :( انظر إلى النمل واحتشاده في

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٣/٥٧ عن كتاب التوحيد للمفضل بن عمر الجعفي .

(٢) وسائل الشيعة : ٢ / ٢٠٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٦٣/٣٣٦ .

(٤) المصدر السابق : ٦٣/٣٥٦ .


جمع القوت وإعداده فإنّك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحبّ الى زبيته (١) بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره ، بل للنمل في ذلك من الجد والتشمير ما ليس للناس مثله أما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ، ثم يعمدون إلى الحب فيقطعونه لكيلا ينبت فيفسد عليهم (٢) فإن أصابه ندى أخرجوه فنشروه حتى يجف ثم لا يتخذ النمل الزبية إلاّ في نشر من الأرض كيلا يفيض السيل فيغرقها ، وكل هذا منه بلا عقل ، ولا رويّة بل خلقة خلق عليها لمصلحة من الله عزّ وجلّ (٣) .

وتكلّم الإمام أيضاً في كل من علوم : النبات ، والفلك ، والكيمياء ، والفيزياء ، والعلاجات النباتية(٤) ، كما تكلّم في الفلسفة والكلام ومباحث الإمامة والسياسة والمعرفة والفقه وأصوله والحديث والتفسير والتأريخ .

وتخصّص من طلاّب الإمام عليه السلام في مباحث الكلام كلٌّ من : هشام بن الحكم ، وهشام بن سالم ، ومؤمن الطاق ، ومحمد بن عبد الله الطيّار ، وقيس الماهر ، وغيرهم .

وتخصّص في الفقه وأُصوله وتفسير القرآن الكريم : زرارة بن أعين ، ومحمد بن مسلم ، وجميل بن درّاج ، وبريد بن معاوية ، وإسحاق بن عمّار وعبد الله الحلبي ، وأبو بصير ، وأبان بن تغلب ، والفضيل بن يسار ، وأبو حنيفة ، ومالك بن أنس ، ومحمد بن الحسن الشيباني ، وسفيان بن عيينه ، ويحيى بن سعيد ، وسفيان الثوري .

ـــــــــــــــــ

(١) الزبية ـ بضم فسكون ـ الزابية لا يعلوها ماء ، جمعها زبى .

(٢) إذا خشي النمل من الحبّة المدخرة أن تنبت في الأرض فلقتها نصفين ، وقد تفلق بعض الحبوب كحب الكزبرة إلى أربعة أقسام ؛ لأنّ نصف الكزبرة أيضاً ينبت .

(٣) التوحيد للمفضل : ٦٦ ، وبحار الأنوار : ٣/ ٦١ و ٦٢ / ١٠٢ .

(٤) راجع حياة الإمام الصادق للشيخ باقر شريف القرشي : ٢/٢٨٩ وما بعدها .


كما تخصّص في الكيمياء : جابر بن حيّان الكوفي .

وتخصّص في حكمة الوجود : المفضّل بن عمر الذي أملى عليه الإمام الصادق عليه السلام كتابه الشهير المعروف ( بتوحيد المفضّل ) .

ونشط طلاّب الإمام في نتاجاتهم كلٌّ حسب اختصاصه في التأليف والمناظرة ، يدل على ذلك ما جمعه السيد حسن الصدر عن مؤلّفات الشيعة في هذه الفترة وقد ذكر أنّها وصلت إلى ستة آلاف وستمائة كتاب(١) .

وبرز في المناظرة : هشام بن الحكم ، وكان الإمام الصادق عليه السلام مسروراً بمناظرات هشام وحين استمع مناظراته مع زعيم المعتزلة ـ عمرو بن عبيد ـ وأخبره بانتصاره عليه قال له الإمام عليه السلام :يا هشام مَن علّمك هذا ؟ قال : يا بن رسول الله جرى على لساني قال الإمام عليه السلام :( هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسى ) (٢) .

ومن الأهداف الكُبرى التي خطّط لها الإمام عليه السلام في مدرسته إلى جانب الاختصاصات الأخرى هو تنشيط حركة الاجتهاد الفقهي الخاص إلى جانب التفقّه في الدين بشكل عام .

من هنا نجد تأصيل منهج الاجتهاد الفقهي واستنباط أحكام الشريعة ، قد تمثّل في الرسائل العلميّة التي دوّنها أصحابه في خصوص أصول الفقه وفي الفقه والحديث والتي تميّزت بالاعتماد على مدرسة أهل بيت الوحي عليهم السلام واتّخاذها أساساً للفقه والإفتاء دون الرأي والاستحسان .

قال عليه السلام :( حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدّي

ـــــــــــــــــ

(١) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : ٢٨٨ .

(٢) راجع الاحتجاج : ٢ / ١٢٥ ـ ١٢٨ .


حديث الحسين ، وحديث الحسين حديث الحسن ، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين ، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ، وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ ) (١) .

وقال عليه السلام :( إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ولكنّا نفتيهم بآثار من رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وأصول علم عندنا نتوارثها كابر عن كابر ، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضّتهم ) (٢) .

وقد تكفّلت كتب أصول الفقه بيان قواعد استنباط الأحكام ومناهجها وكيفية التعامل مع الأحاديث المدوّنة في عامة موسوعات الحديث وأُصوله .

وعلّم طلاّبه كيفية استنباط الأحكام من مصادر التشريع ، كما علّمهم كيفية التعامل مع الأحاديث المتعارضة ، قال عليه السلام فيما عارض القرآن :( ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف ) (٣) ، وقال أيضاً :( إنّ على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه ) (٤) .

وفي حالة تعارض الأحاديث فيما بينها قال عليه السلام :( إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وإلاّ فالّذي جاءكم به أولى به ) (٥) .

وقال عليه السلام :( إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا ) (٦) .

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ١ / ٥٣ ـ ٥٨ .

(٢) بصائر الدرجات : ٣٠٠ .

(٣) الوسائل : ١٨ / ٧٨ .

(٤) أصول الكافي : ١ / ٦٩ .

(٥) المصدر السابق .

(٦) بحار الأنوار : ٢/٢٤٥ ح ٥٣ .