١ ـ الجبر : عندما دعت الحاجة لصياغة علم الكلام والفقه والتفسير رجع المنظّرون لهذه الأفكار إلى التراث الحديثي الذي قد يبدو منه الجبر من قِبل الله للعباد فاستخدموه لخدمة الأمويين تثبيتاً لدعائم سلطانهم فروّجوا عقيدة أنّ الجبر التي تعني نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الربّ تعالى ، فكل ما يصدر من العبد من خير أو شر ينسب إلى الله سبحانه ، ويقولون إنّه ليس لنا صُنع ، أي لسنا مخيّرين بل نسير بإرادة الله ومشيئته فإذا شاء الله أن نصلّي صلّينا وإذا شاء أن نشرب الخمر شربناها واستدلوا على ذلك بآيات قرآنية منها قوله تعالى :( وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله ) (٢) وقوله تعالى :( فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) (٣) ومن الواضح أنّ المعتنق لهذه العقيدة يسمح لنفسه بارتكاب كل جريمة ومعصية من ترك الواجبات وانتهاك المحرّمات مثل شرب الخمر وارتكاب الزنا والسرقة

ـــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري : ١ / ١٦٩ ، وصحيح مسلم باب صلاة العيدين : ٢ / ٦٠٧ ، ومسند أحمد : ٦ / ٣٨ .

(٢) الإنسان : ٧٦ / ٣٠ .

(٣) الأنعام : ٦ / ١٢٥ .


والقتل ثم يقول شاء الله أن أسرق فسرقت ، وشاء الله أن أزني فزنيت ؛ وبهذا لا يكون للإنسان كسب ولا إرادة ولا اختيار ولا تصرّف فيما وهبه الله من نعمة العقل ، فكيف يكون له مطمع في ثواب أو خوف من عقاب(١) .

٢ ـ الزندقة : ومن الأفكار التي ظهرت في عصر الإمام الصادق عليه السلام فكرة الإلحاد والزندقة ، ولا يستغرب أحد من نشوء هذه الفكرة المنحرفة في العالم الإسلامي وهو عالم التوحيد الخالص وإبّان قوته وفي وقت تتطلع سائر الأمم للرسالة الإسلامية الخاتمة .

إنّ الظلم والفساد الذي أشاعه الأمويون في كل ميادين الحياة كان هو السبب في ظهور هذه الأفكار المناقضة للفكر الإسلامي .

عن حماد بن عثمان قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : تظهر الزنادقة سنة ثمانية وعشرين ومئة لأنّي نظرت في مصحف فاطمةعليها‌السلام (٢) .

كان السؤال والمناقشة للفكر الذي يتبنّاهُ الحكام ذنباً لا يغتفر وعلى الإنسان أن يسمع ولا يفكر أمّا الخلافة الإسلامية فتبلورت في طواغيت بني أمية وفراعنة بني العباس هذا الفساد الذي عمّ ميادين الفكر والسلوك شجّع ظهور الفكر الإلحادي كرفض للواقع الفاسد .

ومن هنا نشاهد ابن أبي العوجاء يعقد حلقاته الفكرية لغرض التشكيك في التوحيد وفي مسجد رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم حيث كان ينكر أصل الوجود ويقول : إنّ الوجود بدأ بإهمال وكان الجعد بن درهم ممعناً في الكفر ومبتدعاً ومتفانياً

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢ / ١٢٢ .

(٢) بصائر الدرجات : ١٧٢ ، وبحار الأنوار : ٢٦ / ١٢٣ وإثبات الهداة : ٥ / ١٧٥ .


في الزندقة وكان يعلن الإلحاد(١) ومن بدعه أنّه جعل في قارورة تُراباً وماءً فاستحال دوداً وهواماً فقال لأصحابه : إنّي خلقت ذلك لأنّي كنت سبب كونه وبلغ ذلك الإمام الصادق عليه السلام فردّه بأبلغ البرهان قائلاً :( إن كان خلقه فليقل كم هو ؟ وكم الذكران منه والإناث ؟ وكم وزن كل واحدة منهنّ ؟ وليأمر الذي يسعى إلى هذا الوجه أن يرجع إلى غيره ) (٢) .

٣ ـ الاعتزال : لقد تطرّف الخوارج والمرجئة في حكم مرتكب الكبيرة ، بعد تعارض التراث الحديثي والتفسيري مع العقل ، ثم عجزت الثقافة التي جمدت على ظواهر الحديث والقرآن من الإجابة على الأسئلة التي فرضتها حالة الانفتاح على الحضارات الأخرى ومن هنا تبلورت أفكار المعتزلة تلبية لحاجة التطوّر المدني في البلاد الإسلامية وكثرة الاستفهامات التي كانت تثيرها الحركات الإلحادية فظهرت في هذا العصر فكرة الاعتزال التي رفضت الاعتماد على الحديث بشكل مطلق وهاجمت أهل الحديث لتعطيلهم العقل ، وتكفيرهم كل مَن يبحث ويناقش .

الخط السياسي للاعتزال : كان الاعتزال مسانداً للحكم القائم في تلك العصور ، وقد خدم سياسة الحكّام عندما أخذ يهاجم المقدسات في ضمير الأمة وتفكيرها ؛ وذلك حين أقرّ المعتزلة بأنّ الإمامة والخلافة تتمّ للمفضول ويجوز تقديمه على الفاضل ، وبهذا استدلّوا على شرعيّة خلافة الأمويين والعباسيين .

قال أحمد أمين : إنّ جرأة المعتزلة في نقد الرجال هو بمثابة تأييد قوي

ـــــــــــــــــ

(١) ميزان الاعتدال : ١ / ٣٩٩ ، لسان الميزان : ٢ / ١٠٥ .

(٢) أمالي المرتضى : ١ / ٢٨٤ .


للأمويين ؛ لأنّ نقد الخصوم ووضعهم موضع التحليل وتحكّم العقل في الحكم عليهم أو لهم يزيل على الأقل فكرة تقديس علي عليه السلام التي كانت شائعة عند جماهير الناس(١) .

ولذا نالوا التأييد المطلق والدعم الشامل من قِبل الأمويين وبعد انهيار الحكم الأموي انضمّوا إلى الحكم العباسي فكانوا من أجهزته وأعوانه ، وكان المنصور يُكبر عَمْرو بن عبيد أحد كبار المعتزلة(٢) .

أمّا علاقتهم مع الشيعة فكانت في غاية من الخصومة وترى الشيعة أنّ الاعتزال فكر طارئ على الإسلام ؛ لأنّ تقديم المفضول على الفاضل معناه الخروج عن منطق الحق وإماتة المواهب والقدرات فضلاً عن أنّ هذا الاتجاه يُعارض القرآن الكريم الذي يقول :( قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (٣) .

إنّ الكوارث التي عانتها الأمة على مدى تأريخها بعد الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم تعود إلى تقديم المفضول على الفاضل ، ولولا ذلك لسار الفاضل بالأمة سيراً سجُحاً ولأوردهم منهلاً رويّاً تطفح ضفتاه كما تنبّأت بذلك بضعة الرسول صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم فاطمة الزهراءعليها‌السلام في خطابها المبكّر بعد تسنّم أبي بكر الخلافة والتربّع على منبر رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وعزل علي بن أبي طالب عليه السلام عن هذا الموقع الريادي الذي عيّنه فيه رسول الإسلام .

٤ ـ حركة الغلاة : تعتبر حركة الغلاة في نظر المؤرّخين من أخطر الحركات هدماً

ـــــــــــــــــ

(١) فجر الإسلام : ٢٩٥ .

(٢) تاريخ بغداد : ٤ / ١٤٨ ـ ١٥٠ .

(٣) الزمر : ٣٩ / ٩ .


وضرراً للمجتمع الإسلامي آنذاك ؛ لأنّها حركة سياسية عقائدية قد استهدفت ضرب الإسلام من الداخل ، كما أنّ دراسة هذهِ الحركة من قِبل المؤرّخين لا زالت غامضة حتى اليوم ; إذ لم تدوّن أفكار هذهِ الحركة بأقلام دعاتها .

وحركة الغلاة لم تدم طويلاً ؛ لأنّها ظهرت على المسرح السياسي ثم اختفت بسرعة وقد حاصرها الإمام الصادق عليه السلام حيث أدرك خطورتها فأعلن البراءة منها ومن مبادئها ولعن دعاتها كأبي الخطاب وحذّر الناس من أهدافها الخبيثة .

لقد نشطت هذه الحركة في أواخر الحكم الأموي فبثّ أبو الخطاب أفكاره بسريّة في مدينة الكوفة في الوقت الذي كانت تموج بها التيارات السياسية ، والدعوة العباسية ناشطة في شق طريقها إلى النجاح وكان اختيار أبي الخطاب للكوفة لعلمه بأنّها قاعدة لتجمع الموالين لأهل البيت عليهم السلام ؛ وبهذا يمكن تشويه هذه القاعدة الواعية وضرب أتباع أهل البيت عن هذا الطريق .

قال أبو عباس البغوي : دخلنا على فثيون النصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي ، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب فقال فثيون : رحم الله عبد الله ( ابن كلاب ) كان يجيئني فيجلس إلى تلك الزاوية ـ وأشار إلى ناحية من البيعة وهي الكنيسة ـ وعني أخذ هذا القول ، ولو عاش لنصّرنا المسلمين(١) ـ أي لجعلناهم نصارى .

إنّ ظهور الروحاني بالجسد الجسماني أمرٌ لا ينكره عاقل : أمّا في جانب الخير ، فكظهور جبرئيل عليه السلام ببعض الأشخاص ، والتصوير بصورة أعرابي ، والتمثّل بصورة البشر .

ـــــــــــــــــ

(١) الفهرست لابن النديم : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ .


وأمّا في جانب الشر ، فكظهور الشيطان بصورة إنسان ، حتى يعمل الشر بصورته وظهور الجن بصورة بشر حتى يتكلّم بلسانه فكذلك يقال : إنّ الله تعالى ظهر بصورة أشخاص ولمّا لم يكن بعد رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم شخص أفضل من علي (رضي الله عنه) وبعده أولاده المخصوصون وهم خير البرية فظهر الحق بصورتهم ونطق بلسانهم وأخذ بأيديهم فعن هذا أطلقوا اسم الإلهية عليهم !! وإنّما أثبتوا هذا الاختصاص ( لعلي ) (رضي الله عنه) دون غيره لأنّه كان مخصوصاً بتأييد إلهي من عند الله تعالى فيما يتعلّق بباطن الأسرار(١) .

ثم زعم أبو الخطاب أنّ الأئمة أنبياء ثم آلهة ! وقال بإلهية جعفر بن محمد ! وإلهية آبائه (رضي الله عنهم) وهم أبناء الله وأحباؤه ! والإلهية نور في النبوّة والنبوّة نور في الإمامة ، ولا يخلو العالم من هذه الآثار والأنوار وزعم أنّ جعفراً هو الإله في زمانه !! وليس هو المحسوس الذي يرونه ! ولكن لما نزل إلى هذا العالم لبس تلك الصورة فرآه الناس فيه(٢) !

هذه هي أهم الاتجاهات الفكرية المنحرفة التي كانت قد راجت في عصر الإمام الصادق عليه السلام ، وسوف نتابع مواقف الإمام عليه السلام منها وأساليبه في كيفية التعامل معها بغية معالجة هذا الداء الذي أخذ يستشري في المجتمع الإسلامي آنذاك .

ـــــــــــــــــ

(١) الملل والنحل للشهرستاني : ١/١٦٨ .

(٢) الملل والنحل للشهرستاني : ١/١٥٩ .