العرض الأوّل : روي عن عبد الحميد بن أبي الديلم أنّه قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فأتاه كتاب عبد السلام بن عبد الرحمن بن نعيم ، وكتاب الفيض بن المختار وسليمان بن خالد يخبرونه أنّ الكوفة شاغرة(١) برجلها وأنّه إن أمَرَهُم أن يأخذوها أخذوها فلمّا قرأ عليه السلام كتابهم رمى به ، ثمّ قال :ما أنا لهؤلاء بإمام ، أما علموا أنّ صاحبهم السفياني ؟ (٢) .

العرض الثاني : هو الذي تقدّم به جماعة من منطقة خراسان إلى الإمام الصادق عليه السلام ولم يكن في الحقيقة عرضاً من أجل الثورة ودعوة الناس لمبايعة الإمام عليه السلام ، وإنّما كان استفساراً حول الدعوة التي قد أشاعها شخص كان قد جاء من الكوفة وادّعى أنّه يمثّل الإمام وهو رسوله إليهم .

لنستمع إلى كلام راوي الحدث ـ الحارث بن حصيرة الازدي ـ حيث قال : قدم رجل من أهل الكوفة إلى خراسان فدعا الناس إلى ولاية جعفر بن محمد صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قال : ففرقة أطاعته وأجابت ، وفرقة جحدت وأنكرت ، وفرقة ورعت ووقفت قال : فخرج من كلّ فرقة رجل فدخلوا على أبي عبد الله عليه السلام ـ وقد كان في بعض القوم جارية فخلا بها الرجل الذي كان يعرف بالورع ووقع عليها ـ فلمّا دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام وكان الرجل الذي خلا بالجارية هو المتكلّم فقال لأبي عبد الله عليه السلام : أصلحك الله قدم علينا رجل من أهل الكوفة فدعا الناس إلى طاعتك وولايتك فأجاب قوم ، وأنكر قوم ، وورع

ـــــــــــــــــ

(١) شاغرة : شغر البلد شغوراً : إذا خلى من حافظ يمنعه .

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢ / ٦٤١ / ح٦٦٢ ، بحار الأنوار : ٤٧ / ٣٥١ .


قوم ووقفوا قال :فمن أيّ الثلاث أنت ؟ قال : أنا من الفرقة التي ورعت ووقفت قال :فأين كان ورعك ليلة كذا وكذا ؟ قال : فارتاب الرجل(١) .

العرض الثالث : أوضح الإمام الصادق عليه السلام سياسته في هذه المرحلة أمام حشد من معارضي الأمويين وأشار بشكل غير مباشر إلى الخلل العقائدي والفكري والأهداف التي كان يسعى لها بعض عناصر المعارضة نلاحظ ذلك فيما روي أنّ عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهم من كبار المعتزلة التقوا بالإمام الصادق عليه السلام وطرحوا عليه فكرة القيام بالثورة والاستيلاء على الحكم ، وطلبوا منه التأييد لهم والانضمام معهم .

هنا لم يجب الإمام على نفس السؤال ولم يلبّ طلبهم وإنّما عالج مسألة أخرى هي أهمّ من الاستجابة لطلبهم مستخدماً نفس الطريقة السابقة ; فإنّ العمل المسلّح لا ينفع إذا كانت نوازع الثائرين لا تختلف عن مباني نوازع الأمويين في الحكم ؛ ولهذا شخّص الإمام عليه السلام لهؤلاء الداء الذي سبّب تلك العواقب المظلمة والانحرافات التي ألمّت بالمجتمع الإسلامي .

والحدث كما يرويه لنا عبد الكريم بن عتبة الهاشمي هو كما يلي :

قال : كنت عند أبي عبد الله عليه السلام بمكة إذ دخل عليه أُناس من المعتزلة فيهم : عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء ، وحفص بن سالم ، وأُناس من رؤسائهم ، وذلك حين قُتل الوليد بن يزيد واختلف أهل الشام بينهم ، فتكلّموا فأكثروا ، وخطبوا فأطالوا ، فقال لهم أبو عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام :إنّكم قد أكثرتم عليَّ فأطلتم ، فأسندوا أمركم إلى رجل منكم ، فليتكلّم بحجّتكم وليوجز فأسندوا أمرهم إلى عمرو بن عبيد ، فأبلغ وأطال فكان فيما قال : قتل أهل الشام خليفتهم ، وضرب الله بعضهم ببعض وتشتّت أمرهم ، فنظرنا فوجدنا رجلاً له دين وعقل ومروّة ،

ـــــــــــــــــ

(١) بصائر الدرجات : ٢٦٤ / ح ٥ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ٧٢ .


ومعدن للخلافة ، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن ، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه ، ثم نظهر أمرنا معه ، وندعوا الناس إليه ، فمَن بايعه كنّا معه ، وكان منّا ، ومن اعتزلنا كففنا عنه ، ومَن نصب لنا جاهدناه ونصبنا له على بغيه ، ونردّه إلى الحق وأهله ، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك فإنّه لا غنى بنا عن مثلك ، لفضلك وكثرة شيعتك .

فلمّا فرغ ، قال أبو عبد الله عليه السلام :أكلّكم على مثل ما قال عمرو ؟ قالوا : نعم .

فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم واحتجّ عليهم بحجج ثم أقبل على عمرو ، وقال :اتّق الله يا عمرو ، وأنتم أيها الرهط ، فاتّقوا الله ، فإنّ أبي حدّثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنّة رسوله : أنّ رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قال : ( مَن ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه ، وفي المسلمين مَن هو أعلم منه فهو ضال متكلّف ) (١) .

فهؤلاء مع اعترافهم بفضل الإمام عليه السلام وتقدّمه على مَن سواه كيف كانوا يفكّرون في مبايعة غيره ويتوقّعون تأييد الإمام عليه السلام لهم ؟! وقد دعاهم إلى أمر معقول ومشروع فلا بدّ لهم من إعادة النظر فيما يريدون الإقدام عليه .