أدرك رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن أذى قريش سيزداد ، وأن خطط المشركين ومساعيهم للقضاء على الرسالة لن تتوقف، فقد زال غطاؤها الأمني بوفاة أبي طالب ولابد للرسالة الإسلامية أن تنفتح على جبهة أوسع. وفي الوقت الذي استطاع فيه رسول الله أن يبني الإنسان الرسالي سعى لتهيئة قاعدة تتضح فيها معالم الاستقرار والنظام في محيط يمارس فيه الفرد حياته وعلاقاته مع ربه والناس ولينطلق بعد ذلك إلى بناء الحضارة الإسلامية الإنسانية وفق تعاليم السماء، فوقع اختياره على الطائف حيث تقطن ثقيف كبرى القبائل العربية بعد قريش. ولما انتهى إليها وحده أو بمرافقة زيد بن حارثة أو بمرافقة زيد وعلي(٣) ، عمد إلى نفر من ثقيف وهم يومئذ سادتها وأشرافها، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وعرض عليهم المهمة التي جاء من أجلها وهي أن ينصروه في دعوته ويمنعوه من قومه فلم يعبأوا لدعوته وردوا عليه ساخرين فقال أحدهم: إنني أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال آخر: والله لا أكلمك أبداً ولئن كنت رسولاً من الله كما تقول

ــــــــــــ

(١) السير النبوية: ١ / ٣٩٦.

(٢) كان خروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الطائف لليال بقين من شوال سنة عشرة من البعثة.

(٣) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ١٢٧ و ١٤ / ٩٧ .


لأنت أعظم خطراً من أن أردّ عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. وردّ الآخر قائلاً: أعجزٌ على الله أن يرسل غيرك؟!(١) .

بعد هذا الرد الجاف والعنيف قام صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم من عندهم بعد أن طلب منهم أن يكتموا ما جرى بينه وبينهم; إذ كره أن يبلغ قريش ذلك فيجرّئهم عليه، لكن زعماء ثقيف لم يستجيبوا لطلبه وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم فأخذوا يسبّونه ويصيحون به، ويرمونه بالحجارة، فلم يكن يرفع قدماً ويضع اُخرى إلاّ على الحجارة حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وكانا هناك فتفرق عنه سفهاء الطائف، وقدماه تنزفان دماً، فعمد إلى ظل كرمة ونادى ربّه:(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت ربّ المستضعفين وأنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي ولكن عافيتك هي أوسع لي) .

ولم يلق رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم إلاّ التفاتة عطف من رجل نصراني ضعيف وجد في رسول الله ملامح النبوة(٢) .

وحين انصرف رسول الله من الطائف راجعاً إلى مكة بعد أن يئس من خير ثقيف كان محزوناً حيث لم يستجب له أحد فنزل نخلة (بين مكة والطائف). وفي جوف الليل وحين كان يصلّي مرّ به نفر من الجن واستمعوا للقرآن فلمّا فرغ من صلاته ولّوا إلى قومهم منذرين بعد أن آمنوا به وأجابوا إلى ما سمعوا، وقصّ الله خبرهم عليه قائلاً:( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ) إلى قوله تعالى: ( وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) (٣) .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ١ / ٤٢٠ ، بحار الأنوار: ١٩ / ٦ و٧ و٢٢ ، إعلام الورى: ١ / ١٣٣.

(٢) الطبري: ٢ / ٤٢٦، أنساب الأشراف: ١ / ٢٢٧، تأريخ اليعقوبي: ٢ / ٣٦ السيرة النبوية: ١ / ٤٢٠.

(٣) تاريخ الطبري : ٢ / ٣٤٦، وسيرة ابن هشام: ٢ / ٦٣، والطبقات: ١ / ٣١٢. راجع سورة الأحقاف : ٢٩ ـ ٣١ .