تصدّى الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام لموقع الإمامة بعد أبيه محمد الباقر عليه السلام سنة ( ١١٤ هـ ) ؛ فكان مرجعاً في الدين والسياسة والفكر والثقافة للمسلمين عامة ، ولأتباع أهل البيت عليهم السلام بشكل خاص .

وهذا الأمر نجده واضحاً في جوابه لأبيه عندما أوصاه بصحابته وخاصّته قال الإمام الصادق عليه السلام :لمّا حضرت أبي الوفاة قال : يا جعفر أوصيك بأصحابي خيراً قلت : ( جعلت فداك والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في مصر فلا يسأل أحداً ) (١) .

بهذا المستوى العالي من الإقدام الشجاع أعرب الإمام عليه السلام عن نواياه وبرنامجه الذي أعدّه لمستقبل الشيعة في ظل إمامته والخطّة التي تؤهّلهم لأن يكونوا ذلك النموذج السامي في المجتمع الإسلامي حيث يتحرّك كلٌ منهم برؤى واضحة المسار ، بلا فوضى في الاختيار ولا ضلالة في الفكر والسلوك ; لأنّ هذا الإعداد العلمي والثقافي يجعلهم أغنياء عن الأخذ من الغير ، ويرتقي

ـــــــــــــــــ

(١) الإرشاد : ١ / ٤٠ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ١٢ .


بهم إلى مستوى استغنائهم عن سؤال أحد من المسلمين وغير المسلمين ماداموا قد تمسّكوا بالحبل المتصل بالله ، وهو حبل أهل بيت الرسالة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .

وكان الإمام الباقر عليه السلام قبل هذا الوقت قد هيّأ الشيعة وأعدّهم لأخذ معالم الشريعة من الإمام الصادق عليه السلام عندما قال : ( إذا افتقدتموني فاقتدوا بهذا فإنّه الإمام والخليفة بعدي وأشار إلى ابنه جعفر )(١) .

وباشر الإمام الصادق عليه السلام مسؤولياته بدءاً بالتعريف بإمامته وإثباتها بشكل علمي وعملي .

جاء عن عبد الرحمن بن كثير : إنّ رجلاً دخل المدينة يسأل عن الإمام ، فدلّوه على عبد الله بن الحسن ، فسأله هنيئة ثمّ خرج ، فدلّوه على جعفر بن محمد عليه السلام فقصده فلمّا نظر إليه جعفر عليه السلام قال :( يا هذا إنّك كنتَ دخلتَ مدينتنا هذه ، تسأل عن الإمام ، فاستقبلك فتية من ولد الحسن فأرشدوك إلى عبد الله بن الحسن ، فسألته هنيئة ثم خرجت ، فإن شئت أخبرتك عمّا سألته ، وما ردّ عليك ثم استقبلك فتية من ولد الحسين ، فقالوا لك : يا هذا إن رأيت أن تلقى جعفر بن محمد فافعل فقال : صدقت كان كما ذكرت) (٢) .

وهكذا أخذ الإمام عليه السلام يمارس ألواناً من الأساليب ؛ لئلاّ يضيع أتباع أهل البيت بين القيادات المتعدّدة إلى أن تبلور في الأذهان أنّ الإمام جعفر بن محمد عليه السلام هو الرمز الإلهي والقائد الحقيقي للأمة بعد

ـــــــــــــــــ

(١) كفاية الأثر : ٢٥٤ ، وبحار الأنوار : ٤٧ / ١٥ .

(٢) المناقب لابن شهر آشوب : ٣/٣٤٩ ، وبحار الأنوار : ٢٥/١٨٤ ، و : ٤٧/١٢٥ .


أبيه الباقر عليه السلام .

واستمرّ الإمام بتعزيز خطواته فتحرّك بأسلوب آخر بغية تعميق العلاقة بينه وبين الوجود الشيعي الذي أعدّ تفاصيله ورسم معالمه الإمام الباقر عليه السلام .

ومن هنا نجد الإمام الصادق عليه السلام يشحذ هممهم ويثير في نفوسهم الحماس ويخاطب مواطن الخير والقوّة فيها ، مشيراً إلى أنّ الكثرة من الناس قد خذلتهم وجهلت حقّهم ، وإنّ المسلم الذي تحمّل ساعة الشدّة وبقي ملازماً لهم حتَّى صقلته التجارب ولم يستجب للإغراءات لهو جدير بحمل الأمانة ومواصلة الطريق معهم .

ولنقرأ النص الثاني الذي يرتبط بجماعة موالية لأهل البيت عليه السلام من الكوفة على الإمام الصادق عليه السلام في المدينة بعد استشهاد أبيه قال عبد الله بن الوليد : دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام في زمن بني مروان ، فقال ممّن أنتم ؟ قلنا : من الكوفة قال :ما من البلدان أكثر محبّاً لنا من أهل الكوفة ، لا سيّما هذه العصابة (١) ، إنّ الله هداكم لأمر جهله الناس فأحببتمونا وأبغضنا الناس ، وبايعتمونا وخالفنا الناس ، وصدّقتمونا وكذَّبنا الناس ، فأحياكم الله محيانا ، وأماتكم مماتنا (٢) .

وبعد هذا العرض الموجز للمرحلة التي انتهى منها الإمام الباقر عليه السلام وبدأها الإمام الصادق عليه السلام ، لا بد أن نقف على ملامح عصر الإمام الصادق عليه السلام في شتّى النواحي والمجالات .

ـــــــــــــــــ

(١) يقصد الشيعة لأنّها أخص .

(٢) أمالي الشيخ الطوسي : ١ / ١٤٣ ، وبحار الأنوار : ٦٨ / ٢٠ ح٣٤ .