إنّ العلاقة بين محمّد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه السلام لا تقتصر على النسب بل تتميّز بأنّها علاقة فكرية وعاطفية عميقة جداً، فما ان خرجت فاطمة بنت أسد تحمل وليدها الذي وضعته في بطن الكعبة(١) حتى تقدّم إليها محمّد المصطفى صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وأخذ علياً فضمَّه إلى صدره(٢) وكانت هذه بداية العناية به والإعداد الخاص له.

ونشأ الوليد في أحضان والديه وابن عمه محمد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم الذي كان يتردد كثيراً على دار عمّه حتى بعد زواجه من خديجة (رضي الله عنها)، يشمله بفيض خاص من العواطف والاهتمام الفائق يناغيه في يقظته ويحمله على صدره، ويحرك مهده عند نومه. وقد انعكست هذه الرعاية المستمرة لسنوات طويلة وهذا الحنان العظيم الملفت للنظر بآثارها على سلوك عليّ وشعوره حتّى طفح على لسانه وكلامه فأشار إلى شدة قربه من رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بقوله عليه السلام :(وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره ويكنفني في فراشه ويُمِسُّني جسده ويُشمّني عَرْفه وكان يمضغ الشيء ثم يُلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل، ولقد كنت أتّبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به) (٣) .

وحين اشتدت الأزمة الاقتصادية على قريش سارع محمد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم مقترحاً

ــــــــــــ

(١) قال الحاكم النيسابوري: (فقد تواترت الأخبار أن فاطمة بنت أسد ولدت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه في جوف الكعبة) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٤٨٣.

(٢) الفصول المهمة لإبن الصباغ: ١٣ .

(٣) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة رقم (١٩٢).


على عمّيه حمزة والعباس أن يعينوا أبا طالب في شدّته فأخذ العباس طالباً وأخذ حمزة جعفراً واستبقى أبو طالب عقيلاً وأخذ محمد صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم عليّاً وقال لهم: قد اخترت من اختار الله لي عليكم: علياً(١) .

وهكذا انتقل عليّ عليه السلام إلى دار ابن عمه ورعايته وأخذت تتبلور شخصيته ولم يفارقه حتى آخر لحظات عمر النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن اهتمام النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بعلي عليه السلام لم يقتصر على فترة الأزمة الاقتصادية وهذا يفيدنا بأنّ النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم كان يهدف أمراً آخر هو أن يتربى عليّ عليه السلام في حجره صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم ليعدّه إعداداً خاصاً كي يتسنى له القيام بدور رسالي عظيم في صيانة شريعة الرسول الخاتم التي كان الله قد اختار لها خير خلقه وصفوة عباده.

وهكذا هيأ الله لعلي عليه السلام أن يعيش منذ نعومة أظفاره في كنف الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم يحظى بمودّته وحنانه، ويقتبس من أخلاقه وعظيم سجاياه. هذا وقد عامله النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم كما لو كان ولده الحبيب وعاش علي عليه السلام مع النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم كلّ التحولات الغيبية التي جرت لرسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم إذ لم يفارقه في كل يومه(٢) .

إن ما حفظه لنا التأريخ من سيرة الإمام علي عليه السلام يجسد لنا ـ بعمق وقوة ـ المدى الذي كان الإمام عليه السلام قد حظي به في مضمار الإعداد الرسالي على يد الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم قبل البعثة وبعدها وما خصّه به من إعداد روحي ونفسي ممّ جعله جديراً بالمرجعية الفكرية والعلمية فضلاً عن المرجعية السياسية بعد رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم .

ــــــــــــ

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٦، الكامل في التأريخ: ١ / ٣٧.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ١٩٢ ، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٤ / ٣١٥ .