نقل بعض المؤرّخين: أنّه حينما حاصر الثائرون عثمان; بعث الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بولديه الحسن والحسين عليهما‌ السلام للدفاع عنه، بل قالوا : إنّ

__________

(١) والبحث يحتاج إلى تحقيق أعمق وأوسع لا يتناسب مع هذا الكتاب .

(٢) نهج البلاغة بشرح محمد عبده : ٢ / ٢١٢، وتاريخ الطبري: حوادث سنة ٣٧ : ٤ / ٤٤ .


الإمام الحسن عليه السلام قد جرح وخضّب بالدماء على باب عثمان من جرّاء رمي الناس عثمان بالسهام، ثم تسوّر الثائرون الدار على عثمان وقتلوه، وجاء الإمام علي عليه السلام كالواله الحزين، فلطم الحسن وضرب صدر الحسين عليه السلام وشتم آخرين، منكراً عليهم أن يُقتل عثمان وهم على الباب(١) .

وقد استبعد مؤرّخون آخرون ذلك ; إستناداً إلى أنّ سيرة عثمان تبعد كلّ البعد عمّا نسب إلى عليّ وولديه عليهم السلام ، كما ويبعد منهم أن يتّخذوا موقفاً يخالف موقف البقية الصالحة من الصحابة، وينفصلوا عنهم. ويضيف هؤلاء المؤرّخون بخصوص دفاع الحسن عن عثمان، ولو فرض صحة ذلك، فإنّه لم يكن إلاّ لتبرير موقفه وموقف أبيه من الاشتراك في دمه، وأن لا يتّهمه المغرضون بشيء(٢) .

ويشكّ السيّد الشريف المرتضى في إرسال أمير المؤمنين عليه السلام ولديه للدفاع عن عثمان، إذ يقول : "فإنّما أنفذهما ـ إن كان أنفذهما ـ ليمنعا من انتهاك حريمه وتعمّد قتله، ومنع حرمه ونسائه من الطعام والشراب، ولم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع"(٣) .

وأما العلاّمة الحسنيرحمه‌الله فيقول : "من المستبعد أن يزجّ بريحانتي رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم في تلك المعركة للدفاع عن الظالمين، وهو الذي وهب نفسه وكلّ حياته للحقّ والعدالة وإنصاف المظلومين"(٤) .

__________

(١) راجع الصواعق المحرقة: ١١٥ ـ ١١٦، ومروج الذهب : ٢ / ٣٤٤ ـ ٣٤٥، والإمامة والسياسة : ١ / ٤٤ و ٤٢ و ٤٣، وأنساب الأشراف: ٥ / ٦٩ و ٧٠ و ٧٤ و٩٣ و٩٥، والبدء والتاريخ : ٥ / ٢٠٦، وتاريخ مختصر الدول ١٠٥.

(٢) راجع : حياة الإمام الحسن عليه‌السلام للقرشي : ١ / ١١٥ ـ ١١٦ .

(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٨ .

(٤) سيرة الأئمة الإثني عشر : ١ / ٤٢٨ .


في حين يرى باحث آخر : "أنّ الخليفة كان مستحقّاً للقتل بسوء فعله، كما أنّ قتلته أو الراضين بقتله هم جمهرة الصحابة الأخيار، ولا يعقل أن يقف الحسنان في وجه هؤلاء وصدهم"(١) .

وهنا نقدّم جملة من الملاحظات :

أ ـ إنّ ما ذكره هؤلاء من أنّ الصحابة الأخيار كانوا هم قتلة عثمان أو أنّهم الراضون بقتله فهذا صحيح، ولكن ممّا لا شك فيه هو أنّه كان من بينهم أيضاً من ثأر على عثمان، من أمثال: عائشة والزبير وطلحة وغيرهم، لا لأجل الانتصار للحقّ وإنّما من أجل المكاسب الدنيوية، كما أثبتت ذلك مواقفهم من حكومة الإمام عليّ عليه السلام بعد أن بايعوه عقيب مقتل عثمان .

ب ـ وأمّا ما ذكر من أنّ عليّاً قد ضرب الحسن عليه السلام ودفع صدر الحسين فهذا ما لا اتّفاقَ عليه ; لأنّ عليّاً عليه السلام قد كرّر وأكّد أنّ قتل عثمان لم يسره ولم يسؤه(٢) ، كما أنّه لم يكن ليتّهم الحسنين عليهما‌ السلام بالتواني في تنفيذ الأوامر التي يصدرها إليهما، وهما من الذين نصّ الله سبحانه وتعالى على تطهيرهم، وأكّد النبيّ صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم على عظيم فضلهم وباسق مجدهم وعلى محبته العظيمة لهم .

ج ـ وأمّا بالنسبة للدفاع عن عثمان فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام وإن كان لا يرى خلافة عثمان شرعية من الأساس، وكان على اطّلاع تامّ بالنسبة لجميع المخالفات والانتهاكات التي كانت تصدر عن الهيئة الحاكمة باستمرار إلاّ أنّه عليه السلام لم يكن يرى أنّ علاج الأمر بهذا الأسلوب الانفعالي هو الطريقة المثلى والفضلى، وقد نقل عنه عليه السلام قوله عن عثمان :"إنّه استأثر فأساء الإثرة،

__________

(١) صلح الإمام الحسن لآل ياسين : ٥٠ ـ ٥١ .

(٢) الغدير : ٩ / ٦٩ ـ ٧٧ عن مصادر كثيرة .


وجزعوا فأساءوا الجزع" (١) .

وما ذلك إلاّ لأنّ هذا الأسلوب بالذات وقتل عثمان في تلك الظروف وعلى النحو الذي كان لم يكن يخدم قضية الإسلام، بل كان من شأنه أن يلحق بها ضرراً فادحاً وجسيماً، إذ أنّه سوف يعطي الفرصة لأُولئك المتربّصين من أصحاب المطامع والأهواء لاستغلال جهل الناس ورفع شعار الأخذ بثارات عثمان.

وإذا كان علي عليه السلام لا يرغب في قتل عثمان بالصورة التي حدثت; فإنّه لم يكن يريد أن يكون الدفاع والذبّ عن عثمان موجباً لفهم خاطىء لحقيقة رأيه في عثمان وفي مخالفته، فكان يذكر تلك المخالفات تصريحاً تارةً وتلويحاً أخرى، كما أنّه كان يجيب سائليه عن أمر عثمان بأجوبة صريحة أحياناً ومبهمة أخرى، أو على الأقل بنحو لا تسمح بالتشبّث بها واستغلالها من قبل المغرضين والمستغلين(٢) .

ولم يكن الإمام علي عليه السلام ليسكت عن تلك المخالفات الشنيعة التي كانت تصدر عن عثمان وأعوانه، بل كان عليه السلام وباستمرار يجهر بالحقيقة مرّةً بعد أخرى، وقد حاول إسداء النصيحة لعثمان في العديد من المناسبات حتى ضاق عثمان به ذرعاً، فأمره أن يخرج إلى أرض ينبع(٣) .

كما أنّ عثمان واجه الإمام الحسن عليه السلام وبصريح القول بأنّه لا يرغب بنصائح أبيه، وذلك لأنه "كان عليّ كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان; أرسل ابنه الحسن عليه السلام إليه، فلمّا أكثر عليه قال : إنّ أباك يرى أنّ أحداً لا يعلم ما

__________

(١) نهج البلاغة : ١ / ٧٢ بشرح عبده، الخطبة رقم ٢٩ .

(٢) راجع هذه الأجوبة في كتاب الغدير : ٩ / ٧٠ .

(٣) نهج البلاغة بشرح عبده : ٢ / ٢٦١، والغدير : ٩ / ٦٠ .


يعلم؟ ونحن أعلم بما نفعل، فكفّ عنّا ! فلم يبعث علي عليه السلام ابنه في شيء بعد ذلك ..."(١) .

وهكذا يتّضح أنّ نصرة الحسنين عليهما‌ السلام لعثمان بأمر من أبيهما الإمام علي عليه السلام وقد كانت منسجمة كلّ الانسجام مع خطّهم عليهم السلام الذي هو خطّ الإسلام الصافي والصحيح، وهو يدخل في عداد تضحياتهما الجسام ـ وما أكثرها ـ في سبيل هذا الدين! كما أنّه دليل واضح على بُعد النظر والدقّة والعمق .