وتتضمّن استعراض عصر الإمام عليه السلام وحياته قبل كربلاء، أي من الولادة حتى استشهاد أبيه عليه السلام من سنة (٣٨ أو ٣٦ هـ) إلى سنة (٦١ هـ) .

لقد عاصر الإمام زين العابدين عليه السلام في مرحلتي الطفولة والفتوّة حكم معاوية بن أبي سفيان الذي تميّز بالاضطراب أولاً، ثمّ تلاه القمع في العراق، والتأزّم في الحجاز، وإقصاء السُنّة وظهور البدعة.

ولقد استشهد الإمام أمير المؤمنين علىّ عليه السلام في الكوفة في شهر رمضان من سنة أربعين للهجرة، فيما كان يعبّئ الناس لحرب جديدة مع معاوية، وإثر استشهاده عليه السلام بايع أهل العراق ولده الإمام الحسن المجتبى عليه السلام خليفة عليهم، إلاّ أنّ قلوب أغلب المبايعين لم تكن تصدّق ألسنتهم، فلا ينتظر من المتظاهرين بالتشيّع في الكوفة وفي جيش الإمام علىٍّ عليه السلام ـ الذين آذوه إلى الدرجة التي تمنّى فيها غير مرّة الموت ـ أن يكون سلوكهم مع ولده الحسن عليه السلام أفضل ممّا كان معه.

وكانت الكوفة في السنوات الأخيرة من عمر الإمام علىّ عليه السلام تضمّ مختلف الاتجاهات والجماعات، فكان هنالك اللاهثون وراء السلطة، الطامعون في أن يوليهم الخليفة الجديد منصباً ما والمسلمون الجدد الذين دفعتهم الآمال الكبيرة إلى الإعراض عن مدنهم والتوجّه إلى عاصمة الخلافة على أمل الحصول على عمل يحقّق رغباتهم، والانتهازيون من الموالي الذين تحالفوا مع هذه القبيلة العربية أو تلك لتغطّي على تآمرهم; إذ لا يجرؤون على التحرّك دون غطاء عروبي.

لقد تقوّم المجتمع الكوفي وقتذاك بهذه الجماعات التي وجّهت قدرتها لإيجاد العراقيل والعقبات أمام حركة الإمام الحسن السبط عليه السلام عندما اشترط قيس بن سعد بن عبادة بيعته للإمام الحسن عليه السلام بمحاربة أهل الشام، لكنّ الإمام اضطرّ إلى الصلح مع معاوية بعد أن كشفت أكثر قوات الإمام ما كانت تضمر من أهداف تآمرية على شخص الإمام، والمخلصين من أصحابه بإنضواء بعضهم تحت لواء معاوية، وبثّهم الإشاعات التي أسفرت عن التخاذل المقيت، حتى كتب من كتب منهم إلى معاوية بتسليمهم إمامهم وقائدهم إلى معاوية.

لقد امتازت الفترة الواقعة بين سنة (٤١ هـ) وسنة (٦٠ هـ) بتشديد القهر والقمع على أتباع أهل البيت عليهم السلام في العراق، ويتبيّن من خلال تعامل معاوية مع زعماء هذه المنطقة ـ الذين كانوا يلتقونه بين الحين والآخر ـ الدرجة التي بلغها سخطه على أهل العراق. وقد انكفأ السياسيون العراقيون ـ الذين خدعوا في حرب صفّين وسلّطوا أهل الشام على مقدراتهم ـ في بيوتهم إبّان حكم معاوية، لكنّهم كانوا ينتظرون أن تسنح لهم فرصة جديدة للتحرك.


ومن جهة أخرى لحق بالمسلمين المخلصين ـ الذين نشأوا على التربية الإسلامية النقية وارتفعوا عن المنظار القومي والقبلي أو نظروا من خلاله بالشكل الذي لم يضرّ بدينهم ـ أذىً أكبر ممّا لحق بالطائفة الأولى، إذ كانوا يرون في عهد معاوية ـ الذي امتدّ نحو عشرين عاماً ـ اندراس سنّة النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم .

لقد ظهرت البدعة وساد النظام الملكي عوضاً عن الخلافة، واستلم مقاليد أمور المسلمين أفراد أسرة قامت بكلّ ما بوسعها من أجل القضاء على الإسلام والمسلمين، حتى أنّ ولداً غير شرعيّ من آل ثقيف يصبح ـ وبشهادة بائع خمر ـ أخاً لمعاوية(١) .

وخلافاً لصريح القرآن الكريم لقد بثّ معاوية الجواسيس بين الناس ليحصوا عليهم أنفاسهم، ونسخ الوفاء بالعهد والإيمان، فقتلوا حجر بن عديٍّ بعد كلّ الضمانات التي أعطوها له، وبمؤامرة نسج خيوطها معاوية دسّت جعدة بنت الأشعث بن قيس السمّ لزوجها الإمام الحسن المجتبى سبط رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم .

إلى عشرات الممارسات الأُخرى المخالفة لصريح القرآن وسنّة النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم التي كان يتّسم بها ذلك العهد.

فكانت النتيجة أنّه لم يبقَ أيّ مظهر إسلامي للحكومة الإسلامية في الشام والعراق اللّذين كانا يمثّلان أخطر مركزين في الدولة آنذاك، كما اقتصر فقه المسلمين على الصلاة والصوم والحجّ والزكاة وما يسمّى بالجهاد، وكان المتديّنون المخلصون يتألّمون بشدّة لتفشّي البدع، فكانوا يتربّصون الفرص التي تتيح لهم إقصاء ما ابتدعه معاوية في عصره باسم الإسلام.

ــــــــــــــ

(١) راجع: ترجمة سُمّية أم زياد في هامش وقعة الطف : ٢١١ و ٢١٢.


الوضع السياسي في العراق عند موت معاوية :

وعندما مات معاوية اعتبر الفريقان المتنفّذان في العراق أنّ الفرصة باتت مؤاتية :

أ ـ فريق أهل الدين الذين عاشوا آلام المسلمين وأحزنهم غياب سُنة النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ، وكانوا يستهدفون القضاء على النظام الملكي وإعادة الحكومة الإسلامية كما كانت في عصر الخلفاء السابقين على الأقل.

ب ـ السياسيون المحترفون اللاهثون وراء السلطة الذين كانوا يرومون وضع حدّ لتحكّم الشام بالعراق.

وفي الأيام التي كان العراق فيها يغصّ بالأحداث الخطيرة كان للأجواء في الشام طابع آخر.

كان يزيد في قرية حوارين(١) عندما هلك والده معاوية، فعاد بمساعي والي الشام (الضحّاك بن قيس) إلى دمشق ليعلن نفسه خليفة للمسلمين، وأسرع إلى محاولة تبديد مخاوفه من الأشخاص الذين سيعارضونه، فكتب في الأيام الأولى من خلافته رسالة إلى حاكم المدينة طلب منه فيها أن يأخذ البيعة له من الحسين بن علىّ عليه السلام وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، وكان واضحاً من البداية أنّ الحسين عليه السلام لن يبايع يزيد، واعتبر ابن الزبير نفسه خليفة، إلاّ أنّ الناس تجاهلوه، ولم يكن لابن عمر أيّ دور في الأوضاع، فلن تحقّق بيعته أو عدمها أيّ ضرر بخلافة يزيد، من هنا فإنّ يزيد لا يخشى إلاّ

ــــــــــــــ

(١) قرية تقع بين تدمر ودمشق.


الحسين بن علي عليه السلام ويتعجّل أن يتبيّن موقفه.

وفي تلك الفترة كان من الطبيعي أن يختار العراق ـ الذي كان يتحيّن الفرص ـ ابن بنت النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم قائداً له ليحقّق أهداف المؤمنين المخلصين والسياسيين المحترفين في آن واحد، باعتباره الشخص الوحيد الذي يمكنه إحياء سنّة النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم والقضاء على البدع، وأنّه الوحيد القادر على استقطاب قلوب الناس بشرافة نسبه وجلالة قدره وكرامة نفسه وتقواه، وهو الأشدّ رفضاً للظلم، ولهذا السبب رفض مبايعة يزيد.

ومن هنا تشكّلت المجالس وانعقدت الجماعات في الكوفة فكانت النتيجة أن وُجّهت الدعوة إلى الحسين بن عليّ ابن بنت النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم في الحجاز لينتقل إلى العراق، وتضمّنت الدعوة المؤكدة بأنّ أهل الكوفة على اُهبة الاستعداد لقتال الأمويّين الذين غصبوا الحكم تحت راية الحسين عليه السلام .

وقد بعث الحسين عليه السلام ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة ومعه إجابات الإمام الحسين عليه السلام على رسائل الكوفيين. وقد التف الكوفيّون حول ابن عقيل ورحّبوا به وأكّدوا له مرّةً أُخرى استعدادهم لخوض الحرب ضدّ طُغاة الشام تحت قيادة الحسين، فأرسل إلى الحسين عليه السلام رسالة أوضح فيها أنّ في الكوفة مئة ألف رجل يتعهّدون بمناصرة الإمام مشدّداً على ضرورة إسراع الإمام في التحرّك إلى العراق.

والمدهش أنّ رسائل بعثت في تلك الأيام من الكوفة إلى الشام تؤكّد ليزيد أنّه إذا أراد الكوفة فإنّ عليه أن يبعث عليها حاكماً مقتدراً، لأنّ حاكمها النعمان بن بشير أظهر ضعفاً في تعاطيه مع الأحداث.


وقد تباحث يزيد في هذا الأمر مع مستشاره الرومي السيرجون، الذي أشار عليه بتعيين عبيد الله بن زياد حاكماً على الكوفة، وبوصول ابن زياد إلى الكوفة تخلّى أهلها عن مسلم، وأتاحوا لابن زياد قتله مع مضيّفه هانئ بن عروة، ومن جهة أُخرى كان الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام وعدد من أنصاره في الطريق إلى العراق، والإمام زين العابدين عليه السلام يرافق والده في كل هذه الظروف العصيبة حتى وصلوا العراق (١) .