حفلت المصادر المؤرخة لسيرة الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ بنصوص العديد من الرسائل والبيانات التي كان يصدرها عليه السلام في فترة الغيبة الصغرى والتي عُرفت بالتوقيعات. وهي تشكل أحد الأدلة الوجدانية

ـــــــــــ

(١) الكافي: ١/ ٥٢٥ .

(٢) راجع تأريخ الغيبة الصغرى: ٣٦٧، و٥٩٧ وما بعدهما.


المحسوسة الدالة على وجوده وقيامه بمهام الإمامة في غيبته(١) .

وتمثل التوقيعات إحدى وسائل اتصال الإمام بالمؤمنين وإيصال توجيهاته إليهم بحكم أوضاع عصر الغيبة التي حددت الاتصالات المباشرة، ومما ساعد على إتباع هذه الوسيلة وقوّة تأثيرها في المؤمنين تمهيد آبائه عليهم السلام لذلك باتباع هذا الاسلوب في وقت مبكر خاصةً في عصر الإمام الكاظم عليه السلام الذي قضى شطراً كبيراً من مدة إمامته التي ناهزت خمسة وثلاثين عاماً في سجون العباسيين أو تحت مراقبتهم الشديدة وتعرضهم للأذى الشديد لأصحابه، فكان يتصل بالمؤمنين ويجيب على اسئلتهم الدينية ويتوددهم ويوصل إليهم توجيهاته عبر الرسائل التي لم تنقطع حتى عندما كان في السجن عبر وسائل مبتكرة واشخاص فشلت السلطات العباسية في التعرف على ولائهم للإمام الحق عليه السلام .

وقد اشتدّ العمل بهذا الاسلوب في عهد الامامين الهادي والعسكري عليهما‌ السلام ، وذلك بسبب ازدياد المراقبة التي فرضتها السلطات العباسية عليهما إذ جعجعت بهما الى (سرّ من رأى) عاصمة الامبراطورية العباسية يومذاك والتي كانت أشبه ما تكون بالقلعة العسكرية، ولذلك كانت تسمى أيضاً «العسكر»، وجعلتهما أشبه ما يكونان بالسجينين في هذه القلعة. وإضافة لذلك فإن تأكيدهما على استخدام هذا الاسلوب جاء كتمهيد مباشر لغيبة ولدهما المهدي ـ عجل الله فرجه ـ من خلال تعويد المؤمنين على هذا الاسلوب دفعاً للشبهات وإتماماً للحجة ولكي يتقبلوا العمل بما يرد في الرسائل بتسليم إيماني راسخ، خاصةً وأن الإمام عليه السلام كان يستخدم الخط نفسه

ـــــــــــ

(١) راجع نماذجها في المجلد الثاني من كتاب معادن الحكمة. لمحمد بن الفيض الكاشاني وكتاب الصحيفة المهدية لوالده وغيرها من كتب الغيبة.


الذي كان يستخدمه أبوه في رسائله وذلك تثبيتاً للايمان في قلوب المؤمنين به; وقطعاً للطريق على المستغلين(١) .

وقد جاء قسم من هذه التوقيعات جواباً على أسئلة من المؤمنين عبر السفراء الأربعة، والقسم الآخر كان بمبادرة من الإمام نفسه فيما يرتبط ببعض القضايا المهمة كحمايته للمؤمنين والوكلاء كما رأينا، أو فيما يرتبط بالكشف عن انحراف بعض الوكلاء أو زيف ادعاء منتحلي الوكالة، أو فيما يرتبط بالنص على تعيين السفراء وغير ذلك.

كما اشتملت على ما يحتاجه المؤمنون من معارف الإسلام الحق وأحكامه في مختلف شؤونهم الحياتية عقائدية وفقهية وتربوية وأخلاقية وأدعية وغير ذلك، وما تحتاجه الأمة في عصر الغيبة كالإرجاع الى الفقهاء العدول، والتأكيد على استمرار رعايته في غيبته وتحديد علائم ظهوره وغير ذلك مما سنتعرف على بعض نماذجه في فصل لاحق. كما أن في بعضها نماذج تطبيقية لاستنباط الحكم الشرعي من الأحاديث المروية تعويداً للأمة على العمل الإجتهادي في عصر الغيبة الكبرى(٢) ، وبعبارة جامعة يمكن القول إن هذه التوقيعات كانت من جهة وسيلة لقيادة المؤمنين وحفظ كيانهم; ومن جهة أخرى وسيلة لإكمال ما يحتاجونه في عصر الغيبة الكبرى من حقائق الإسلام وأحكامه.

ـــــــــــ

(١) الغيبة للطوسي : ٢٢٠.

(٢) راجع مثلاً توقيعاته عليه‌السلام لمحمد بن عبدالله الحميري المروية في كتاب الاحتجاج : ٢ / ٤٨٣ وما بعدها.