من أهم النشاطات التي بدرت للإمام الحسن العسكري عليه السلام في عصره هي الردّ الهادئ والحكيم لأكبر محاولة تخريبية كان الكندي ـ وهو أحد فلاسفة المسلمين ـ قد تصدّى لها، فإنّه كان قد جمع جملة من الآيات المتشابهة التي يبدو للناظر فيها أنها تنطوي على نوع من التناقض، وكان ينوي نشرها، وهذه المحاولة كانت تستهدف القرآن الكريم سند الرسالة والنبوة، ورمز الكيان الإسلامي الأوّل.

لم يلتفت أحد إلى مدى خطورة هذه المحاولة وتأثيرها السلبي على غير المتخصصين وهم عامة المسلمين، بالإضافة إلى ما تعطيه هذه المحاولة من مستمسكات بيد أعداء الإسلام والمسلمين، غير أن الإمام عليه السلام قد اطّلع على هذه المحاولة وأجهضها وهي في مهدها، حيث دخل أحد تلامذة الكندي على


الإمام الحسن العسكري عليه السلام فقال له الإمام عليه السلام :أما فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عمّا أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟

فقال التلميذ: نحن تلامذته كيف يجوز منّا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره ؟

فقال أبو محمد عليه السلام :أتؤدّي إليه ما ألقيه إليك ؟

قال: نعم.

قال الإمام عليه السلام : فصر إليه وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها ; فإنّه يستدعي ذلك منك، فقل له: إن أتاك هذا المتكلّم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلّم منه غير المعاني التي قد ظننتها أنّك ذهبت إليها ؟

فإنه سيقول لك: إنّه من الجائز ; لأنه رجل يفهم إذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعلّه أراد غير الذي ذهبت أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه.

ثمّ إن الرجل صار إلى الكندي، ولمّا حصلت الأنسة ألقى عليه تلك المسألة فقال الكندي: أعد عليّ، فتفكّر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر.

فقال ـ الكندي ـ: أقسمت عليك إلاّ أخبرتني من أين لك ؟

فقال تلميذه: إنه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك، فقال: كلاّ ما مثلك من اهتدى إلى هذا، ولا من بلغ هذه المنزلة، فعرّفني من أين لك هذا ؟

فقال: أمرني به أبو محمّد العسكري عليه السلام .

فقال: الآن جئت به، ما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت، ثم دعا


بالنار وأحرق ما كان ألّفه(١) .

وهذا الموقف من الإمام عليه السلام له دلالة كبيرة على رصد الإمام عليه السلام لكل النشاطات العلمية والفكرية التي من شأنها أن تمس الرسالة الإسلامية من قريب أو بعيد بالإضافة إلى دورها الكبير في تنمية الحس الاعتقادي الصحيح وإبعاد الشيعة عن مواطن الشك والشبهة، وذلك أسلوب اتبعه الإمام عليه السلام تجاه الفرق والمذاهب، والانحرافات الفكرية بشكل عام; ليكون درساً لأصحابه وشيعته على مرّ الأجيال والقرون.

ثمّ إنّ حادثة الاستسقاء بالرهبان وتأثيرها السلبي على جموع المسلمين لم يكن ليردّ عليها أحد سوى الإمام العسكري عليه السلام ، وكانت السلطة قد عرفت هذا الموقع المتميّز للإمام عليه السلام . فطلبت منه أن يتولّى مهمة الدفاع عن اُمة جدّه حين حصل لها الشك والارتياب.

وقد أفلح الإمام عليه السلام ـ كما عرفنا ذلك ـ ورفع الشكوك والإبهامات التي كانت تنعكس على حقّانية الشريعة والكيان الإسلامي الذي يعمل باسم الشريعة الخاتمة، وبذلك أنقذ الإمام عليه السلام الأمة الإسلامية والكيان الإسلامي من السقوط والانهيار.