لقد ازداد نفوذ الأتراك بعد قتلهم المتوكل عام(٢٤٧هـ) وتنصيب ابنه المنتصر بعده، حتى أن الخليفة العباسي أصبح مسلوب السلطة ضعيف الإرادة ويتضح ذلك مما رواه ابن طباطبا حيث قال:

«.. لما جلس المعتز على سرير الخلافة فقد حضر خواصه وأحضروا المنجّمين وقالوا لهم: انظروا كم يعيش وكم يبقى في الخلافة، وكان بالمجلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أعرف من هؤلاء بمقدار عمره وخلافته، فقالوا: فكم تقول أنه يعيش وكم يملك ؟ قال: مهما أراد الأتراك، فلم يبق أحد إلاّ ضحك»(٢) .

يعكس لنا هذا النص ما كان للأتراك من نفوذ ودور في إرادة الدولة وعزل الخلفاء والتحكّم في الأمور العامة. فقد استولوا على المملكة واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في أيديهم كالأسير إن شاءوا خلعوه وإن شاءوا قتلوه، وكان المعتز يخاف الأتراك ويخشى بأسهم ولا يأمن جانبهم وكان بُغا الصغير ـ وهو أشدّ هؤلاء خطراً ـ أحد قوّاد الجيش الذي أسهم في قتل المعتز مع جماعة من الأتراك بعد أن أشهدوا عليه بأنه قد خلع نفسه.

ــــــــــــ

(١) الفخري في الآداب السلطانية، ابن طباطبا: ٢٢١.

(٢) الفخري في الآداب السلطانية: ٢٢١.


لقد عاصر الإمام الحسن العسكري عليه السلام أواخر خلافة المعتز الذي كان استشهاد الإمام الهادي عليه السلام على يده بدس السمّ إليه فكانت سياسة المعتز امتداداً لسياسة المتوكّل في محاربة الإمام الحسن العسكري ـ والشيعة ـ بل ربما ازدادت ظروف القهر في هذه الفترة حتى أنّ المعتز أمر بتسفير الإمام الحسن العسكري عليه السلام إلى الكوفة حين رأى خطر وجود الإمام عليه السلام واتّساع دائرة تأثيره وكثرة أصحابه.

قال محمّد بن بلبل: تقدّم المعتز إلى سعيد الحاجب أن أخرج أبا محمد إلى الكوفة ثم اضرب عنقه في الطريق(١) .

وكتب إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام أبو الهيثم ـ وهو أحد أصحاب الإمام عليه السلام ـ يستفسر عن أمر المعتز بإبعاده إلى الكوفة قائلاً:

«جُعلت فداك بلغنا خبرٌ أقلقنا وبلغ منا»، فكتب الإمام عليه السلام : «بعد ثلاث يأتيكم الفرج» فخلع المعتز بعد ثلاثة أيام وقتل(٢) .

فلم تكن العلاقة بين الإمام عليه السلام والمعتز إلاّ تعبيراً عن الصراع والعداء الذي ابتدأ منذ أن استلم بنو العبّاس الخلافة بعد سقوط الدولة الاُموية وامتدّ على طول عمر الدولة إلاّ في فترات قصيرة جدّاً، فكان كيد السلطة ورصدها لتحرّك الإمام عليه السلام دائماً ومستمراً وذلك لما عرفه الخلفاء من المكانة السامية والدور الفاعل للأئمّة في الأمة وما كانوا يخشونه منهم على سلطتهم وكيانهم الذي أقاموه بالسيف والدم على جماجم الأبرياء والأتقياء من أبناء الأمة الإسلامية.

ويروي لنا محمد بن علي السمري توقّع الإمام الحسن العسكري هلاك المعتزّ قائلاً: «دخلت على أبي أحمد عبيد الله بن عبد الله وبين يديه رقعة أبي محمد ـ العسكري ـ عليه السلام ، فيها:إني نازلت الله في هذا الطاغي يعني الزبيري ـ لقب المعتز ـوهو آخذه بعد ثلاث، فلما كان في اليوم الثالث فعل به ما فعل »(٣) فقد قتل شرّ قتلة.

ويصف ابن الأثير قتل المعتز الذي ورد في هذه العبارة قائلاً عنه:

ــــــــــــ

(١) كشف الغمة: ٣/٢٠٦.

(٢) الخرائج والجرائح: ١/٤٥١ ح ٣٦.

(٣) كشف الغمة: ٣/٢٠٧ عن كتاب الدلائل.


«دخل إليه جماعة من الأتراك فجرّوه برجله إلى باب الحجرة وضربوه بالدبابيس وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس في الدار، فكان يرفع رجلاً ويضع أخرى لشدّة الحر، وكان بعضهم يلطمه وهو يتّقي بيده وأدخلوه حجرة، وأحضروا ابن أبي الشوارب وجماعة أشهدوهم على خلعه، وشهدوا على صالح بن وصيف أن للمعتز وأمه وولده وأخته الأمان، وسلّموا المعتز إلى من يعذّبه، فمنعه الطعام والشراب ثلاثة أيّام، فطلب حسوة من ماء البئر فمَنَعَه ثم أدخلوه سرداباً وسدّوا بابه، فمات»(١) .

وكان سبب خلعه أنه منع الأتراك أرزاقهم ولم يكن لديه من المال وقد تنازلوا له إلى خمسين ألف دينار، فأرسل إلى أمه يسألها أن تعطيه مالاً فأرسلت إليه: «ما عندي شيء»، فتآمروا عليه وقتلوه.

وهذه القصة خير مؤشّر على ضعف السلطة العباسية وخروج الأمر من يد الخليفة، فالكتّاب المسؤولون على الأموال يتصرّفون بها كيف ما كانوا يشاءون ولا يطيعون الخليفة في شيء فكانت تلك النهاية المخزية للمعتز على أيدي أعوانه، وحرّاسه من الأتراك.