أصبحت الدولة الإسلامية كياناً يهاب جانبه، وكان على المسلمين الحفاظ على حدوده وأراضيه حتى تبلغ الرسالة الإسلامية أرجاء الأرض.

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية: ٢ / ٤٩٨، المغازي: ٣ / ٩٥٧.

(٢) كانت غزوة تبوك في رجب سنة ( ٩ ) من الهجرة .


واستنفر النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم المسلمين من جميع نقاط الدولة الإسلامية استعداداً لحرب الروم إذ وردت أخبار تؤكد استعدادهم لغزو الجزيرة واسقاط الدولة ومحق الدين الإسلامي وصادف أن كان ذلك العام عام جدب وقلّة ثمار وكان الوقت صيفاً حاراً مما زاد من صعوبة الخروج لملاقاة عدو قوي متمرّس كبير العدد والعدة. فتقاعس ذوو النفوس الضعيفة والمعنويات المتدنّية وبرز النفاق ثانية علانية ليثبّط العزائم ويخذل الإسلام.

وتخلّف بعض عن الالتحاق بالجيش لشدّة تعلّقهم بالدنيا، وبعض آخر احتجّ بشدّة الحر وآخرون لم يستطيعوا لشدّة ضعفهم وقلة إمكانات النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم لحملهم معه رغم بذل المؤمنين الصادقين أموالهم للجهاد في سبيل الله.

وبلغ النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن المنافقين يجتمعون في بيت أحد اليهود يثبّطون الناس ويخوّفونهم من اللقاء، فتعامل معهم بحزم وشدة فأرسل إليهم من يحرق عليهم دارهم ليكونوا عبرة لغيرهم.

وقد أنزل الله آيات تفضح خطط المنافقين وتؤنّب المتقاعسين وتعذر الضعفاء; وبلغ عدد جيش المسلمين ثلاثين ألف مقاتل ـ على أقل تقدير ـ واستخلف النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم علي بن أبي طالب في المدينة لما يعلم منه من حنكة وحسن تدبير وقوة يقين; إذ خشي الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم من قيام المنافقين بعمل تخريبي في المدينة، فقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم : (يا علي إن المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك) (١) .

الإعلان عن مكانة علي عليه السلام لدى النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :

وأشاع المنافقون والذين في قلوبهم مرض حول بقاء علي بن أبي طالب في المدينة اُموراً إذ قالوا: إنما تركه رسول الله استثقالاً له وتخففاً منه، سعْياً منهم للإثارة رجاء أن يخلو جو المدينة لهم فأسرع عليّ عليه السلام للالتحاق برسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم فلحق به على مقربة من المدينة وقال:يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلّفتني أنك استثقلتني وتخفّفت مني .

ــــــــــــ

(١) الإرشاد للمفيد ١ / ١١٥، أنساب الأشراف: ١ / ٩٤ ـ ٩٥، كنز العمّال ج١١ / باب فضائل عليعليه‌السلام .


فقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم : (كذبوا ولكنني خلّفتك لما تركت ورائي فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي) (١) .

جيش العسرة :

وانطلق جيش المسلمين في طريق وعر طويل وقد أوضح لهم الرسول هدف المسيرة خلافاً لما كان في الغزوات الماضية. وكان يتخلف عنه في الطريق جماعة ممن خرجوا معه من المدينة فكان يقول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم لأصحابه: دعوه فإن يكن به خير فسيلحقه الله بكم وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه.

وأسرع النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم السير حين مرّ على أطلال قوم صالح وقال لأصحابه وهو يعظهم: (لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلاّ وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم مثل ما أصابهم)، ونهاهم عن استعمال الماء من هذه المنطقة وحذّرهم من خطورة الظروف الجوية فيها(٢) ، وللصعوبات التي أحاطت هذه الغزوة من حيث الماء والغذاء والنفقة والظهر (الخيل والإبل) فقد سمّي هذا الجيش بـ (جيش العسرة).

ولم يجد المسلمون جيش الروم; إذ قد تفرّق جمعهم، وهنا استشار الرسول القائد أصحابه في ملاحقة العدو أو العودة إلى المدينة فقالوا: إن كنت اُمِرت بالسير فسِرْ. فقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم : (لو اُمرت به ما استشرتكم فيه) (٣) . وهنا قرّر النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم العودة إلى المدينة.

ــــــــــــ

(١) امتاع الأسماع: ١ / ٤٤٩، صحيح البخاري: ٣ / ١٣٥٩ الحديث ٣٥٠٣، صحيح مسلم: ٥ / ٢٣ الحديث ٢٤٠٤، سنن ابن ماجة: ١ / ٤٢ الحديث ١١٥ ، مسند أحمد: ١ / ٢٨٤ الحديث ١٥٠٨ .

(٢) السيرة النبوية: ٢ / ٥٢١، السيرة الحلبية: ٣ / ١٣٤.

(٣) المغازي: ٣ / ١٠١٩.


واتصل الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بزعماء المنطقة الشمالية للجزيرة وعقد معهم معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين وبعث رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم خالد بن الوليد إلى دومة الجندل خوفاً من تعاون زعيمها مع الروم في هجوم آخر وتمكّن المسلمون من أسر زعيمهم وحمل الغنائم الكثيرة(١) .

محاولة اغتيال النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :

أقفل النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم والمسلمون راجعين إلى المدينة بعد أن أمضوا بضع عشرة يوماً في تبوك، وتحرك الشيطان في نفوس جمع ممّن لم يؤمن بالله ورسوله فعزموا على اغتيال الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وذلك بتنفير ناقته عند مرورها عليهم ليطرحوه في واد كان هناك.

وحين وصل الجيش إلى العقبة (بين المدينة والشام) قال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :(من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم) فأخذ الناس بطن الواديوسلك هو طريق العقبة وكان يقود ناقته عمار بن ياسر ويسوقها حذيفة بن اليمان، فرأى النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم في ضوء القمر فرساناً قد تلثّموا ولحقوا به من ورائه في حركة مريبة فغضب صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم; فتمالكهم الرعب وعرفوا بأن النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم قد علم بما أضمرته نفوسهم ومؤامرتهم فاسرعوا تاركين العقبة ليخالطوا الناس ولا تنكشف هويّتهم .

وطلب حذيفة من الرسول صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن يبعث اليهم من يقتلهم بعد ما عرفهم من رواحلهم ولكن رسول الرحمة عفا عنهم وأوكل أمرهم إلى الله تعالى (٢) .

ــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى: ٢ / ١٦٦، بحار الأنوار: ٢١ / ٢٤٦.

(٢) المغازي: ٣ / ١٠٤٢، مجمع البيان: ٣ / ٤٦، بحار الأنوار: ٢١ / ٢٤٧.


من نتائج غزوة تبوك :

١ ـ لقد برز المسلمون كقوة كبيرة منظمة، تملك العقيدة القوية فتهابهم الدول المجاورة والديانات الأخرى وكان هذا إنذاراً حقيقياً لكل القوى في خارج البلاد الإسلامية وداخلها بعدم التعرض للإسلام والمسلمين.

٢ ـ ضمن المسلمون عن طريق المعاهدات مع زعماء المناطق الحدودية (من جهة الشمال) أمن هذه المنطقة.

٣ ـ استفاد المسلمون من قدرتهم على تعبئة جيش كبير في العدة والعدد وازدادت خبرتهم في التنظيم والإعداد، وكانت الرحلة إلى تبوك بمثابة استطلاع ميداني استفاد منه المسلمون في المراحل اللاحقة.

٤ ـ كانت غزوة تبوك اختباراً لمعنويات المسلمين وتمييزاً للمنافقين وفرزهم عن سائر المسلمين.

٥ ـ مسجد ضرار : لقد جاء النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بالشريعة السمحاء ودين التوحيد وعمل جاهداً أن يبني الإنسان الصالح والمجتمع السليم وفق التعاليم الربانية، ولقد خاض كل المحن والابتلاءات والمعارك من أجل تطهير الإنسان من دنس الشرك ووساوس الشيطان والأمراض النفسية.


وتحركت نوازع الحسد والبغض لدى مجموعة من المنافقين فعمدوا إلى بناء مسجد في مقابل مسجد ( قباء ) زاعمين أنّه لذوي العلة والحاجة والليلة المطيرة، وأسرعوا إلى النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم يطلبون منه أن يصلّي فيه ليضفي الشرعية على عملهم فأخّر الاستجابة لأنه كان على استعداد للخروج إلى تبوك، فلمّا رجع من تبوك نزل الأمر الإلهي بالنهي عن الصلاة في هذا المسجد لأنّه كان عاملاً لتفريق كلمة المسلمين والإضرار بالاُمة، وشتان بين بنيان أسس على التقوى وآخر للإضرار بالمسلمين ومن هنا أمر النبيّ صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بهدمه وإحراقه (١) .