لقد كان الاختبار العلمي لأئمة أهل البيت عليهم السلام أقصر طريق للحكام لمعرفة ما هم عليه من الجدارة العلمية التي هي أحدى مقوّمات الإمامة وهو في نفس الوقت أقصر طريق لأهل البيت عليهم السلام للتألّق العلمي في المجتمع الإسلامي .

ومن هنا كانت السلطة بعد إجراء أيّ اختبار علمي تحاول التعتيم عليه لئلاّ يستفيد أتباع أهل البيت عليهم السلام من هذه الورقة المهمّة ضدّ السلطة الحاكمة .

ولكن المصادر التاريخية قد حفظت لنا نصوص هذه الاختبارات وفيها ما يدلّ على الرّد القاطع من أهل البيت عليهم السلام على جميع التحدّيات العلمية التي خطّطت لهم وانتصارهم في هذا الميدان الذي كان يعيد لهم مرجعيّتهم الدينية في الأمة الإسلامية .

وإليك نموذجاً من هذا الاختبار الذي أجراه ابن الأكثم في عصر المتوكل ثم حاول التعتيم عليه .

فقد روى ابن شهر آشوب أنّه : قال المتوكل لابن السكّيت اسأل ابن الرّضا مسألة عوصاء بحضرتي فسأله ، فقال : لم بعث الله موسى بالعصا ، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى ، وبعث محمّداً بالقرآن والسّيف ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام : بعث الله موسى بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السّحر ، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم وأثبت الحجّة عليهم ، وبعث عيسى بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله في زمان الغالب على أهله الطّب فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم .

ــــــــــــــ

(١) راجع الفصل الثالث من الباب الأول مبحث ( التحذير من مجادلة الصوفيين ) وراجع أيضاً مبحث ( الإمام والغلاة ) في الفصل الثاني من الباب الرابع .


وبعث محمّداً بالقرآن في زمان الغالب على أهله السّيف والشّعر فأتاهم من القرآن الزاهر والسّيف القاهر ما بهر به شعرهم وبهر سيفهم وأثبت الحجّة عليهم ، فقال ابن السّكيت : فما الحجّة الآن ؟ قال :العقل ، يعرف به الكاذب على الله فيكذّب .

فقال يحيى بن أكثم : ما لابن السّكيت ومناظرته ؟! وإنّما هو صاحب نحو وشعر ولغة ، ورفع قرطاساً فيه مسائل فأملى عليّ بن محمد عليهما‌ السلام على ابن السّكيت جوابها(١) .

وجاء في رواية أخرى أنّ هذه الأسئلة قد كتبها ابن الأكثم لموسى بن محمد بن الرضا ، ومن الواضح أنّ المقصود بها هو الإمام الهادي عليه السلام بلاريب ؛ ولهذا جاء بها أخوه موسى إليه فأجاب عنها الإمام عليه السلام ، وإليك نصّ الرواية :

عن موسى بن محمد بن الرضا قال : لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة فسألني عن مسائل ، فجئت إلى أخي علي بن محمد عليهما‌ السلام فدار بيني وبينه من المواعظ ما حمّلني وبصّرني طاعته ، فقلت له : جُعلت فداك إنّ ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها ، فضحك عليه السلام ثم قال :وما هي ؟

ــــــــــــــ

(١) مسند الإمام الهادي عليه‌السلام : ٢٥ .


قلت :

كتب يسألني عن قول الله :( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ) (١) نبي الله كان محتاجاً إلى علم آصف ؟

وعن قوله :( وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) (٢) سجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء ؟

وعن قوله :( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ ) (٣) ، مَن المخاطب بالآية ؟ فإن كان المخاطب النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم فقد شكّ ، وإن كان المخاطب غيره ، فعلى مَن إذن أُنزل الكتاب .

وعن قوله :( وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ ) (٤) ما هذه الأبحر ؟ وأين هي ؟

وعن قوله :( وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ) (٥) فاشتهت نفس آدم عليه السلام أكل البر فأكل وأطعم وفيها ما تشتهي الأنفس ، فكيف عُوقب ؟

وعن قوله( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً ) (٦) يزوّج الله عباده الذكران وقد عُوقب قوم فعلوا ذلك ؟

وعن شهادة المرأة جازت وحدها وقد قال الله :( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (٧) ؟

ــــــــــــــ

(١) النمل (٢٧) : ٤٠ .

(٢) يوسف (١٢) : ١٠٠ .

(٣) يونس (١٠) : ٩٤ .

(٤) لقمان : (٣١) : ٢٧ .

(٥) الزخرف (٤٣) : ٧١ .

(٦) الشورى (٤٢) : ٥٠ .

(٧) الطلاق (٦٥) : ٢ .


وعن الخنثى ، وقول علي عليه السلام : يورث من المبال ، فمَن ينظر ـ إذا بال ـ إليه ؟ مع أنّه عسى أن يكون امرأة وقد نظر إليها الرجال ، أو عسى أن يكون رجلاً وقد نظرت إليه النساء ، وهذا ما لا يحل وشهادة الجارّ إلى نفسه لا تقبل .

وعن رجل أتى إلى قطيع غنم فرأى الراعي ينزو على شاة منها فلمّا بصر بصاحبها خلّى سبيلها ، فدخلت بين الغنم كيف تذبح ؟ وهل يجوز أكلها أم لا ؟

وعن صلاة الفجر لِمَ يجهر فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار ؟ وإنّما يجهر في صلاة الليل .

وعن قول علي عليه السلام لابن جرموز : بشّر قاتل ابن صفية بالنار ، فلِمَ لم يقتله وهو إمام ؟!

وأخبرني عن علي عليه السلام لم قتل أهل صفّين وأمر بذلك مقبلين ومدبرين وأجاز على الجرحى ؟ وكان حكمه يوم الجمل أنّه لم يقتل مولّياً ولم يجهز على جريح ولم يأمر بذلك ، وقال مَن دخل داره فهو آمن ، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن لِمَ فعل ذلك ؟ فإن كان الحكم الأوّل صواباً فالثاني خطأ وأخبرني عن رجل أقرّ باللواط على نفسه أيحد أم يدرأ عنه الحد ؟

قال عليه السلام : اكتب إليه : قلت : وما اكتب ؟ قال عليه السلام : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم وأنت فألهمك الله الرشد ، أتاني كتابك فامتحنتنا به من تعنّتك لتجد إلى الطعن سبيلاً إن قصرنا فيها والله يكافيك على نيّتك ، وقد شرحنا مسائلك فاصغ إليها سمعك وذلّل لها فهمك ، واشغل بها قلبك ، فقد لزمتك الحجّة والسلام سألت عن قول الله عزّ وجل :( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ ) فهو آصف بن برخيا ، ولم يعجز سليمان عليه السلام عن معرفة ما عرف آصف لكنّه صلوات الله عليه أحب أن يعرّف أُمّته من الجن والإنس أنّه الحجّة من بعده ، وذلك من علم سليمان عليه السلام أودعه عند آصف بأمر الله ، ففهّمه ذلك لئلا يختلف عليه في إمامته ودلالته ، كما فهّم سليمان عليه السلام في حياة داود عليه السلام لتعرف نبوّته وإمامته من بعد لتأكّد الحجّة على الخلق .


وأمّا سجود يعقوب عليه السلام وولده كان طاعة لله ومحبّة ليوسف عليه السلام ، كما أنّ السجود من الملائكة لآدم عليه السلام لم يكن لآدم عليه السلام وإنّما كان ذلك طاعة لله ومحبّة منهم لآدم عليه السلام ، فسجود يعقوب وولده ويوسف عليه السلام معهم كان شكراً لله باجتماع شملهم ، ألم تره يقول في شكره ذلك الوقت :( رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ـ إلى آخر الآية ـ) (١) .

وأمّا قوله :( فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ ) فإنّ المخاطب به رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم ولم يكن في شكّ ممّا انزل إليه ولكن قالت الجهلة كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشارب والمشي في الأسواق ؟! فأوحى الله إلى نبيه ، ( فسئل الذين يقرءون الكتاب ) بمحضر الجهلة ، هل بعث الله رسولاً قبلك إلاّ هو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أُسوة ، وإنّما قال : فإن كنت في شكّ ولم يكن شكّ ولكن للمنفعة كما قال :( تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٢) .

ولو قال ( عليكم ) لم يجيبوا إلى المباهلة ، وقد علم الله أنّ نبيّه يؤدّي عنه رسالته وما هو من الكاذبين ، فكذلك عرف النبي أنّه صادق فيما يقول ولكن أحبّ أن ينصف من نفسه .

وأمّا قوله :( وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ

ــــــــــــــ

(١) يوسف (١٢) : ١٠٢ .

(٢) آل عمران (٣) : ٦١ .


مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ ) .

فهو كذلك لو أنّ أشجار الدنيا أقلام والبحر يمدّه سبعة أبحر وانفجرت الأرض عيوناً لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله وهي عين الكبريت وعين التمر وعين الـ ( برهوت ) وعين طبرية وحمّة ماسبندان وحمّة افريقية يدعى لسان وعين بحرون ، ونحن كلمات الله لا تنفد ولا تُدرك فضائلنا .

وأمّا الجنّة فإنّ فيها من المآكل والمشارب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وأباح الله ذلك كلّه لآدم عليه السلام والشجرة التي نهى الله عنها آدم عليه السلام وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد عهد إليهما أن لا ينظرا إلى مَن فضّل الله على خلائقه بعين الحسد فنسي ونظر بعين الحسد ولم يجد له عزماً .

وأمّا قوله :( أو يزوّجهم ذكراناً واناثاً ) أي يولد له ذكور ويولد له إناث يقال لكل اثنين مقرنين زوجان كل واحد منهما زوج ، ومعاذ الله أن يكون عنى الجليل ما لبّست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم ،( ... ومَن يفعل ذلك يلقَ اثاماً * يضاعفْ له العذاب يوم القيامة ويَخْلُدْ فيه مهاناً ) (١) إن لم يتب .

وأمّا شهادة المرأة وحدها التي جازت فهي القابلة جازت شهادتها مع الرضا ، فإن لم يكن رضى فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة ؛ لأنّ الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها ، فإن كانت وحدها قبل قولها مع يمينها .

وأمّا قول علي عليه السلام في الخنثى فهي كما قال : ينظر قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة وتقوم الخنثى خلفهم عريانة وينظرون في المرايا فيرون الشبح فيحكمون عليه .

وأمّا الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة فإن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسم الغنم نصفين وساهم بينهما فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر ، ثم يفرق النصف الآخر فلا يزال كذلك حتى تبقى شاتان فيقرع بينهما فأيتها وقع السهم بها

ــــــــــــــ

(١) الفرقان (٢٥) : ٦٨ ـ ٦٩ .


ذُبحت وأُحرقت ونجا سائر الغنم .

وأمّا صلاة الفجر فالجهر فيها بالقراءة ؛ لأنّ النبي صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم كان يغلس بها فقراءتها من الليل .

وأمّا قول علي عليه السلام : بشّر قاتل ابن صفية بالنار فهو لقول رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وكان ممّن خرج يوم النهروان فلم يقتله أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة ؛ لأنّه علم أنّه يُقتل في فتنة نهروان .

وأمّا قولك : إنّ عليّاً عليه السلام قتل أهل صفّين مُقبلين ومُدبرين وأجاز على جريحهم وأنّه يوم الجمل لم يتبع مولّياً ولم يجهز على جريح ومَن ألقى سلاحه آمنه ومَن دخل داره آمنه ، فإنّ أهل الجمل قتل امامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها وإنّما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا متنابذين ، رضوا بالكف عنهم فكان الحكم فيها رفع السيف عنهم والكف عن أذاهم ؛ إذ لم يطلبوا عليه أعواناً .

وأهل صفّين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدّة وإمام يجمع لهم السلاح : الدروع والرماح والسيوف ويسني لهم العطاء ، يهيّئ لهم الأنزال ويعود مريضهم ويجبر كسيرهم ويداوي جريحهم ويحمل راجلهم ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم فلم يساوِ بين الفريقين في الحكم لما عرف من الحكم في قتل أهل التوحيد لكنّه شرح ذلك لهم ، فمَن رغب عرض على السيف أو يتوب من ذلك .

وأمّا الرجل الذي اعترف باللواط فإنّه لم تقم عليه بيّنة وإنّما تطوع بالإقرار من نفسه وإذا كان للإمام الذي من الله أن يعاقب عن الله كان له أن يمنّ عن الله ، أمّا ما سمعت قول الله : ( هذا عطاؤنا ) ، قد انبأناك بجميع ما سألتنا عنه فاعلم ذلك(١) .

وقد أوضحت هذه الرواية الموقع العلمي للإمام عليه السلام ومدى تحدّيه لعلماء عصره

ــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٣٥٢ .


ولاسيّما علماء البلاط الذين لا يروق لهم مثل هذا التحدّي .

ولهذا قال ابن أكثم للمتوكل بعد ما قرأ هذه الأجوبة : ما نحب أن نسأل هذا الرجل عن شيء بعد مسائلي هذه ، وأنّه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها وفي ظهور علمه تقوية للرافضة(١) .