إنّ الاضطرابات السياسية والصراع على السلطة وبدء انفصال أجزاء عن الدولة العباسية واستقلالها قد أثّر في تدهور الوضع الاقتصادي .

وكان لظهور الطبقية في المجتمع الإسلامي آثار سلبية أدّت إلى سرعة الانهيار الاقتصادي فضلاً عن المجاعة وارتفاع الأسعار ، ممّا كان له أثر كبير

ــــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام السياسي : ٣ / ٣٣٢ وما بعدها .


في اضطراب الأمن وفقدان السيطرة من قِبل الدولة ، وقد تجلّى ذلك في قصر فترة حكم الخلفاء إلى جانب انتقال إدارة الدولة إلى القوّاد الأتراك بدل الخلفاء ؛ وهو دليل واضح على ضعف شوكتهم وفقدان هيبتهم أمام قوّاد الجيش ووزرائهم وكتّابهم (١) .

٤ ـ الموقع الاجتماعي والسياسي للإمام الهادي عليه السلام

إنّ حادثة إشخاص الإمام عليه السلام من قِبل المتوكل من المدينة إلى سامراء وإيكال ذلك الأمر إلى يحيى بن هرثمة ، وما نقله يحيى هذا عن حالة أهل المدينة المنوّرة ، وما انتابهم وما أحدثوا من ضجيج واضطراب لإبعاد الإمام عليه السلام عنهم ؛ يصوّر لنا مدى تأثّر أهل المدينة بأخلاقيّة الإمام عليه السلام المثلى وحسن سلوكه وتعامله معهم وشدّة اندماجه في حياتهم ، ولا غرو ، فهو سليل دوحة النبوّة وثمرة شجرة الإمامة التي هي فرع النبوّة ، فالإمام هو حجّة الله سبحانه على خلقه وهو المثل والقدوة التي يُقتدى بها وهو القيّم والحافظ لرسالة الإسلام .

وهذا عبيد الله بن خاقان المعاصر للإمام الحسن العسكري عليه السلام كان يصف الإمام الهادي لرجل قائلاً له : لو رأيت أباه ـ أي الإمام الهادي عليه السلام ـ لرأيت رجلاً جليلاً نبيلاً خيّراً فاضلاً(٢) .

وكان للإمام عليه السلام نفوذ في عمق البلاط بحيث نجد أُمّ المتوكل تبعث بصرّة للإمام عليه السلام بعد التوسّل به لتوصيف دواء لداء المتوكل وهو كاشف عن إيمانها بمكانة هذا الإمام عند الله تعالى .

وقد شاع خبره وذاع صيته عند أصحاب البلاط فضلاً عن عامّة الناس ،

ــــــــــــــ

(١) يُراجع تاريخ الطبري : ج٧ ، أحداث السنوات ٢٤٧ ـ ٢٥٤ هـ .

(٢) كمال الدين للشيخ الصدوق : ١ / ٤٢ .


في الوقت الذي كان المتوكل قد أحكم الرقابة الدقيقة على تصرّفات الإمام عليه السلام وارتباطاته ؛ لئلاّ يتّسع نفوذه وتمتدّ زعامته ، بل كان يخطّط لسجنه واغتياله .

وتكفي نظرة سريعة على ما صدر من معاصريه من تصريحات حول مكانته وسموّ منزلته ؛ لتقف عند الموقع الاجتماعي المتميز للإمام عليه السلام بالرغم من كل محاولات التسقيط (١) .

٥ ـ العباسيون والإمام الهادي عليه السلام

تدرّجت سياسة الحكّام العباسيين في مناهضة أهل البيت عليهم السلام بعد أن عرفوا موقعهم الديني والاجتماعي المتميّز ، وأنّهم لا يداهنون من أجل الحكم والملك ، بل إنّهم أصحاب مبدأ وعقيدة وقيم ، فكانت سياسة السفّاح والمنصور والرشيد تتلخّص في الرقابة المشدّدة والتضييق مع فسح المجال للتحرّك المحدود ، ورافقها خلق البدائل العلمية لئلاّ ينفرد أهل البيت عليهم السلام بالمرجعية العلمية والدينية في الساحة الاجتماعية ، فكان الدعم المباشر من الحكّام لأئمة المذاهب وتبنّي بعضها والدعوة إليها في هذا الطريق .

ولكن كل هذه الأساليب لم تفلح في التعتيم الإعلامي وتوجيه الأنظار عن أهل البيت عليهم السلام إلى غيرهم ، فكانت سياسة المأمون هي سياسة الاحتواء التي نفّذها مع الإمام الرضا عليه السلام .

غير أنّ المأمون حين أدرك عدم إمكان احتواء الإمام عليه السلام قضى عليه ، لكنّه بتزويجه لابنته أُمّ الفضل من الإمام الجواد عليه السلام قد أحكم الرقابة على

ــــــــــــــ

(١) راجع الفصل الثاني من الباب الأوّل من هذا الكتاب .


ولده الإمام الجواد عليه السلام بشكل ذكي جداً ، ولم يسمح المعتصم للإمام الجواد عليه السلام ـ وهو في ريعان شبابه ـ ليبقى في مدينة جدّه ، بل استدعاه وقضى عليه بالسم ؛ لأنّه قد أدرك أيضاً عدم إمكان احتوائه ، بل عدم إمكان إحكام الرقابة عليه من داخل بيته وخارجه .

وهنا جاء دور المتوكل ومَن تبعه لسجن الإمام والتضييق عليه بأنحاء شتّى ، فتمّ استدعاء الإمام الهادي عليه السلام وعُرِّض لأنواع الاحتقار والتسقيط والتضييق ـ كما لاحظنا ـ وأُحكمت الرقابة على كل تصرّفاته داخل البيت وخارجه ، بنحو قد تجنّبوا فيه إثارة الرأي العام حيث تظاهروا بإكرام الإمام واحترامه وإعزازه عليه السلام ، بينما وصلت الرقابة إلى أبعد حدّ .

وكانت قضية الإمام المهدي المنتظر عليه السلام من الأسباب المهمّة التي دعت السلطة لإحكام الرقابة عليه ؛ لئلاّ يولد الإمام المهدي عليه السلام إن أمكن أو للاطلاع على وجوده إن كان قد وُلد ، ومن ثمّ القضاء عليه .

وقد بقي الإمام الهادي عليه السلام تحت رقابة الحكّام العباسيين مدة طويلة تزيد على العشرين عاماً(١) ، وهي فترة طويلة جداً إذا ما قسناها مع فترة ولاية العهد للإمام الرضا عليه السلام أو فترة بقاء الإمام الجواد عليه السلام في بغداد في زمن المعتصم .

وفي هذا مؤشّر واضح لتغيير العباسيين سياستهم العامة تجاه أئمة أهل البيت عليهم السلام .

٦ ـ اضطهاد أتباع أهل البيت عليهم السلام

إذا استثنينا سياسة المنتصر التي لم تدم سوى ستة أشهر والتي تمثّلت في اللين مع العلويين وشيعة أهل البيت عليهم السلام فإنّا نجد السياسة العباسية العامة هي مناهضة أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم ، وممارسة سياسة العنف معهم بالرغم من اتّساع رقعة التشيّع بعد تظاهر المأمون باحترامه الخاص للإمام الرضا عليه السلام .

ــــــــــــــ

(١) وقد عرفت أنّ بعض المصادر صرّحت بأنّ مدّة إقامتهعليه‌السلام في سامراء عشر سنوات وأشهر .


إنّ حرمان أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم من الوضع المعيشي اللائق بهم إنّما كان باعتبار قلقهم من توظيف المال للإطاحة بملكهم .

ومن هنا كانت سياسة التقشّف بالنسبة لهم سياسة عامة قد سار عليها عامة ملوك بني العباس ، وهم أعرف بالمكانة الاجتماعية لأهل البيت عليهم السلام في قلوب المؤمنين .

وكان الحرمان يمتدّ إلى إخراجهم من الوظائف الحكومية إن عثروا على موالٍ لأهل البيت عليهم السلام كان قد حظي بوظيفة حكومية ، بل تعدّى ذلك إلى تحديد أملاكهم وغلمانهم حتى بان الفقر والحرمان على كثير من العلويين في هذا العصر .