بجهود صادقة وبحنكة كبرى وشجاعة فائقة وتسديد إلهي ارتقى النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم بالمسلمين سُلّم الوعي الرسالي والثبات والخير وزرع فيهم روح الصبر والتواصل.. وانطلق صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم برسالته السماوية إلى العالم الإنساني خارج الجزيرة العربية من خلال كتبه ورسله إلى زعماء القوى المجاورة.

وتوقع النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن تكون ردود الفعل مختلفة فقد يكون بعضها هجوماً عسكرياً يقصد المدينة مستعيناً بما فيها من بقية جيوب المنافقين واليهود وهم الذين حفل تأريخهم بالغدر والخيانة .

ــــــــــــ

(١) السيرة النبوية : ٢ / ٦٠٦ ، والطبقات الكبرى : ١ / ٢٦٤ .

(٢) قد عدّ علماء الإسلام ما يقارب من ( ١٨٥ ) كتاباً ورسالة بعثها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى كل القوى يدعوها إلى الإسلام. راجع : مكاتيب الرسول لعلي بن حسين علي الأحمدي .

(٣) وقعت هذه الغزوة في شهر جمادى الآخرة من السنة السابعة للهجرة، راجع الطبقات الكبرى : ٢ / ٧٧.


وكانت خيبر تمثّل حصناً قوياً ومركزاً كبيراً لليهود ولهذا قرر النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم أن يقضي على هذه القوة المتبقّية، فلم يلبث بعد عودته من الحديبية إلاّ أياماً قلائل حتى جهّز جيشاً بلغ تعداده ألفاً وستمائة من المسلمين مؤكداً لهم أن لا يخرجوا في ابتغاء الغنيمة وقال صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :(لا يخرجنّ معنا إلاّ راغب في الجهاد) (١) .

واتّبع النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم اسلوباً يوهم حلفاء اليهود ويمنعهم عن المبادرة لنصرتهم; تجنباً لمزيد من القتال.

فباغتت قوات المسلمين حصون اليهود يتقدمها علي بن أبي طالب عليه السلام حاملاً راية رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم .

وامتنعت اليهود في حصونهم المنيعة بخطة محكمة كانوا قد اتّبعوها، ثم دارت مناوشات متعددة تمكّن المسلمون خلالها من احتلال عدة مواقع مهمة. على أن القتال اشتدّ وطالت مدّة الحصار وعانى المسلمون من قسوة الجوع حتى أنهم أكلوا طعاماً غير مستساغ.

وأعطى رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم رايته إلى عدد من الصحابة ليتم الفتح على أيديهم فلم يأتوا إلاّ بالفرار والفشل. ولمّا بلغ الجهد بالمسلمين قال النبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم :(لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرّار غير فرّار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه) (٢) .

ــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى: ٢ / ١٠٦.

(٢) السيرة النبوية : ٢/٣٣٧ صحيح مسلم ١٥/١٧٦ ـ ١٧٧ وفضائل الصحابة : ٢/٦٠٣ ومسند الإمام أحمد : ٣/٣٨٤ والمواهب اللدنيّة : ١/٢٨٤ ، والاستيعاب : ٣/٢٠٣، كنز العمال: ١٣/١٢٣.


ودعا في اليوم التالي علياً وأعطاه الراية فتمّ الفتح على يديه وسرّ المسلمون والنبي صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم جميعاً، وصالح رسول الله صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله‌ وسلم البقية الباقية من اليهود بعد استسلامهم على نصف ثمار مزارعهم التي أصبحت ملكاً للمسلمين، ولم يعاملهم كما عامل بني النضير وبني القينقاع وبني قريظة; إذ لم تعد قوة اليهود الباقية ذات أثر مهم في المدينة.