أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ، وَآذَ نَتْ
(1) بِوَدَاع، وَإِنَّ الاْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَشْرَفَتْ بِاطِّلاَع(2)، أَلاَ وَإِنَّ اليَوْمَ المِضْمارَ(3)، وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ الجَنَّةُ(4)، وَالغَايَةُ النَّارُ; أَفَلاَ تَائِبٌ مِنْ خَطِيئَتِهِ قَبْلَ مَنِيَّتِهِ(5)! أَلاَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قَبْلَ يَوْمِ بُؤْسِهِ(6)! أَلاَ وَإِنَّكُمْ في أَيَّامِ أَمَل مِنْ وَرَائِهِ أَجَلٌ، فَمَنْ عَمِلَ في أَيَّامِ أَمَلهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ فَقَدْ نَفَعَهُ عَمَلُهُ، وَلَمْ يَضرُرْهُ أَجَلُهُ; وَمَنْ قَصَّرَ في أَيَّامِ أَمَلِهِ قَبْلَ حُضُورِ أَجَلِهِ، فَقَدْ خَسِرَ عَمَلَهُ، وَضَرَّهُ أَجَلُهُ، أَلاَ فَاعْمَلُوا فِي الرَّغْبَةِ كَمَا تَعْمَلُونَ فِي الرَّهْبَةِ(7)، أَلاَوَإِنِّي لَمْ أَرَ كَالجَنَّةِ نَامَ
____________
  1. آذَنَتْ: أعْلَمَتْ.
  2. أشَرَفَتْ باطّلاع: أقبلت علينا بغتةً.
  3. المِضْمار: الموضع والزمن الذي تضمّر فيه الخيل، وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علفها وماؤها حتى تسمن، ثم يُقلل علفها وماؤها وتجري في الميدان حتى تهزل، ثم تُرَدّ إلى القوت، والمدة أربعون يوماً، وقد يطلق التضمير على العمل الاول أوالثاني، وإطلاقه على الاول لانه مقدمة للثاني وإلاّ فحقيقة التضمير: إحداث الضمور وهو الهزال وخفة اللحم، وإنما يفعل ذلك بالخيل لتخف في الجري يوم السباق.
  4. السَّبَقَة ـ بالتحريك ـ : الغاية التي يجب على السابق أن يصل إليها.
  5. المنيّة: الموت والاجل.
  6. البُؤس ـ بالضم ـ : اشتداد الحاجة، وسوء الحالة.
  7. الرهبة ـ بالفتح ـ : هي مصدر رَهِبَ الرجل ـ من باب عَلمَ ـ رهباً بالفتح وبالتحريك وبالضم، ومعناه خاف.



طَالِبُهَا، وَلاَ كَالنَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، أَلاَ وَإنَّهُ مَنْ لاَيَنْفَعُهُ الحقُّ يَضْرُرهُ البَاطِلُ، وَمَنْ لا يستقم بِهِ الهُدَى يَجُرُّ بِهِ الضَّلاَلُ إِلَى الرَّدَىْ، أَلاَ وَإِنَّكُمْ قَد أُمِرْتُمْ بِالظَّعْنِ(1)
، وَدُلِلْتُمْ عَلى الزَّادَ.
  وَإِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخافُ عَلَيْكُمُ: اتِّبَاعُ الهَوَى، وَطُولُ الاَْمَلِ، تَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا مَا تَحُوزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً. 

  ____________
  1. الظعن ـ بالسكون والتحريك ـ : الرحيل عن الدنيا وفعْله كَقَطَعَ.




المصدر:
نهج البلاغة