نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ، وَنَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنا عَلَى مَا يَكُونُ، وَنَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ في الاَْدْيَانِ، كَمَا نَسَأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الاَْبْدَانِ.
  أُوصِيكُمْ عِبادَاللهِ بِالرَّفْضِ لِهذهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ وَإِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا، وَالْمُبْلِيَةِ لاَِجْسَامِكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا، فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهَا كَسَفْر
(1) سَلَكُوا سَبِيلاً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ، وَأَمُّوا(2) عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ، وَكَمْ عَسَى الْـمُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ(3) أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا! وَمَا عَسَى أَنْ
____________
  1. السّفْر ـ بفتح فسكون ـ : جماعة المسافرين.
  2. أمّوا: قصدوا.
  3. المُجْري إلى الغاية: يريد الذي يجري فرسه إلى غاية معلومة، أي مقدار من الجَرْي يلزمه حتى يصل إلى غايته.



يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لاَ يَعْدُوهُ، وَطَالِبٌ حَثِيثٌ يَحْدُوهُ
(1) فِي الدُّنُيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا!
  فَلاَ تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَفَخْرِهَا، وَلاَ تَعْجَبُوا بَزِينَتِهَا وَنَعِيمِهَا، وَلاَ تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَبُؤْسِهَا، فَإِنَّ عِزَّهَا وَفَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاع، وَزِينَتَهَا وَنَعِيمَهَا إِلَى زَوَال، وَضَرَّاءَهَا وَبُؤْسَهَا إِلَى نَفَاد
(2)، وَكُلُّ مُدَّة فِيهَا إِلَى انْتِهَاء، وَكُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاء.
  أَوَلَيْسَ لَكُمْ في آثَارِ الاَْوَّلِينَ [مُزْدَجَرٌ]
(3)، وَفِي آبَائِكُمُ الْمَاضِينَ تَبْصِرَةٌ وَمُعْتَبَرٌ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ! أَوَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لاَ يَرْجِعُونَ، وَإِلَى الْخَلَفِ الباقِي لاَ يَبْقَوْنَ! أوَلَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُمْسُونَ ويُصْبِحُونَ عَلَى أَحْوَال شَتَّى: فَمَيِّتٌ يُبْكَى، وَآخَرُ يُعَزَّى، وَصَرِيعٌ مُبْتَلىً، وَعَائِدٌ يَعُودُ، وَآخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ(4)، وَطَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلُبُهُ، وَغَافِلٌ وَليْسَ بِمَغْفُول عَنْهُ; وَعَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي!
 
____________
  1. يَحْدُوه: يسوقه.
  2. نَفَاد: فناء.
  3. مُزْدَجَر: مصدر ميمي من ازْدَجَرَ، وَمعناه الارتداع والانزجار.
  4. بنفسه يجود: من جاد بنفسه إذا قارب أن يقضي نحبه، كأنه يسخو بها ويُسْلمها إلى خالقها.



أَلاَ فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وَقَاطِعَ الاُْمْنِيَاتِ، عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ
(1) لِلاَْعْمَالِ الْقَبِيحَةِ، وَاسْتَعِينُوا اللهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ، وَمَا لاَ يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ.

____________
  1. المُسَاوَرَة: المُوَاثَبَة. كأنه يرى العمل القبيح ـ لبعده عن ملاءمة الطبع الانساني بالفطرة الالهية ـ ينفر من مُقْتَرِفه كما ينفر الوحش، فلا يصل إليه المغبون إلا بالوثبة عليه.




المصدر:
نهج البلاغة