وقد عُرف المتوكل ببغضه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ولآل البيت عليهم السلام
وشيعتهم ، ففي سنة (٢٣٦ هـ) أمر بهدم قبر الإمام الحسين عليه السلام
وهدم ما حوله من الدور .
ومنع الناس من زيارته وأمر بمعاقبة مَن يتمرّد على المنع .
قال السيوطي : وكان المتوكّل معروفاً بالتعصّب فتألّم المسلمون من ذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد وهجاه الشعراء .
فمّما قيل في ذلك :
بالله إن كانت أُمية قد أتت
|
|
قتل ابن بنت نبيّها مظلوما
|
فلقد أتاه بنو أبيه بمثله
|
|
هذا لعمري قبره مهدوما
|
أسفوا على أن لا يكونوا شاركوا
|
|
في قتله فتتبّعوه رميما
|
ولم يقف المتوكّل عند حدّ في عدائه ونصبه لأهل البيت عليهم السلام
وإيذاء شيعتهم فقد قتل معلّم أولاده إمام العربية يعقوب ابن السكّيت حين سأله : مَن أحب إليك ؟ هما ـ يعني ولديه المعتز والمؤيد ـ أو الحسن والحسين ؟ فقال ابن السكّيت : قنبر ـ يعني مولى علي ـ خير منهما ، فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات ، وقيل أمر بسلّ لسانه فمات ، وذلك في سنة (٢٤٤ هـ)
.
وأهم حدث في زمن المتوكّل فيما يخص حياة أهل البيت عليهم السلام
بحيث يكشف عمّا وصل إليه الرأي العام الإسلامي من التوجّه إليهم والاهتمام بهم في الوقت الذي كان العباسيون يفقدون فيه موقعهم في النفوس هو حدث إشخاص المتوكّل للإمام علي الهادي عليه السلام
من مدينة جدّه ووطنه إلى سجون سُرّ مَن رأى بعيداً عن حواضر العلم والدين والأدب .
ــــــــــــــ
ففي سنة (٢٣٤ هـ) أي بعد سنتين
من سيطرته على كرسي الخلافة أمر المتوكل يحيى بن هرثمة بالذهاب إلى المدينة والشخوص بالإمام إلى سامراء ، وكانت للإمام عليه السلام
مكانة رفيعة بين أهل المدينة ، ولمّا همّ يحيى بإشخاصه اضطربت المدينة وضجّ أهلها كما ينقل يحيى نفسه ، حيث قال : دخلت المدينة فضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهادي عليه السلام
ـ وقامت الدنيا على ساق ؛ لأنّه كان محسناً إليهم ملازماً المسجد ، لم يكن عنده ميل إلى الدنيا فجعلت أسكتهم ، وأحلف لهم أنّي لم أومر فيه بمكروه وأنّه لا بأس عليه ثم فتّشت منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية ، وكتب علم ، فعظم في عيني
.
ونستفيد من هذه الرواية أُموراً منها :
١ ـ قوّة تأثير الإمام الهادي عليه السلام
وانشداد الناس إليه وتعلّقهم به لكثرة إحسانه إليهم ، ولأنّه يجسّد الرسول والرسالة في هديه وسلوكه .
٢ ـ خشية السلطة العباسية من تعاظم أمر الإمام عليه السلام
ومن سهولة اتصال الجماعة الصالحة به ، وإشخاصه إلى سامراء يعتبر إبعاداً له عنهم ومن ثمّ يمكن وضعه تحت المراقبة الشديدة .
٣ ـ تأثّر قائد الجيش العباسي ـ يحيى بن هرثمة ـ بالإمام عليه السلام
وتعظيمه له ; لكذب الاتهامات حوله بالنسبة لعدّ العدّة والسلاح للإطاحة
ــــــــــــــ
بالخليفة العباسي .
٤ ـ عزوف الإمام عليه السلام
عن الدنيا وملازمة المسجد متخذاً من سيرة آبائه نبراساً له ، ومن المسجد طريقاً لبثّ علوم أهل البيت عليهم السلام
وتصحيح معتقدات الأمة .
٥ ـ عزل الإمام عليه السلام
عن شيعته ومحبّيه ، فسامراء مدينة أسّسها المعتصم العباسي وكانت تسكنها غالبية تركية ( قوّاد وجنود ) ولم يكونوا يعبؤون بالدين والقيم قدر اهتمامهم بالسيطرة والسلطة .
الوشاية بالإمام عليه السلام
يبدو من بعض المصادر أنّ أحد أسباب إشخاص المتوكّل العباسي للإمام الهادي عليه السلام
إلى سامراء هو وشاية إمام الحرمين الذي كان معروفاً بالنصب لأهل البيت عليهم السلام
وقد كانت هذه الوشايات متتابعة ومتكرّرة ؛ وهذا دليل على عدم الارتياح لتواجد الإمام الهادي عليه السلام
بالمدينة ، وتأثيره الكبير على الحرمين معاً وهما مركز الثقل العلمي والديني في الحاضرة الإسلامية .
ويشهد لذلك ما قالوا : من أنّه كتب بريحة العباسي
صاحب الصلاة بالحرمين إلى المتوكل : ( إن كان لك في الحرمين حاجة فأخرج علي بن محمد منهما فإنّه قد دعا إلى نفسه واتبعه خلق كثير ).
وتابع بريحة الكتب في هذا المعنى فوجّه المتوكل بيحيى بن هرثمة في سنة (٢٣٤ هـ) وكتب معه إلى أبي الحسن عليه السلام
كتاباً جميلاً يعرّفه أنّه قد اشتاقه ويسأله القدوم عليه وأمر يحيى بالمسير معه كما يحب ، وكتب إلى بريحة يعرّفه ذلك .
ــــــــــــــ
وإليك نصّ رسالة المتوكل إلى الإمام الهادي عليه السلام
، حسبما رواه الشيخ محمد بن يعقوب الكليني : عن محمد بن يحيى ، عن بعض أصحابنا قال : أخذت نسخة كتاب المتوكل إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام
من يحيى بن هرثمة في سنة ثلاث وأربعين ومائتين وهذه نسخته : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، أمّا بعد فإنّ أمير المؤمنين عارف بقدرك ، راع لقرابتك ، موجباً لحقّك يقدّر الأمور فيك وفي أهل بيتك ، ما أصلح الله به حالك وحالهم وثبت به عزّك وعزّهم ، وأدخل اليُمن والأمن عليك وعليهم يبتغي بذلك رضى ربّه وأداء ما افترض عليه فيك وفيهم ، وقد رأى أمير المؤمنين صرف عبد الله بن محمد عمّا كان يتولاّه من الحرب والصلاة بمدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
؛ إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقّك واستخفافه بقدرك ، وعندما قرفك
به ، ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين براءتك منه وصدق نيّتك في ترك محاولته ، وأنّك لم تؤهّل نفسك له ، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل ، وأمره بإكرامك وتبجيلك ، والانتهاء إلى أمرك ورأيك والتقرّب إلى الله والى أمير المؤمنين بذلك ، وأمير المؤمنين مشتاق إليك يحب إحداث العهد بك والنظر إليك فإن نشطت لزيارته والمقام قبله ما رأيت ، شخصت ومَن أحببت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مهلة وطمأنينة ترحل إذا شئت وتنزل إذا
ــــــــــــــ
شئت ، وتسير كيف شئت ، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين ومَن معه من الجند مشيّعين لك ، يرحلون برحيلك ، ويسيرون بسيرك ، والأمر في ذلك إليك حتى توافي أمير المؤمنين فما أحد من إخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطف منه منزلة ولا أحد له أثرة ولا هو لهم أنظر وعليهم أشفق ، وبهم أبرُّ وإليهم أسكن منه إليك إن شاء الله تعالى والسلام عليك ورحمة الله وبركاته )
.
إنّ المتوكل قد كان يهدف في رسالته أُموراً إعلامية ودعائية أولاً تأثيراً في أهل المدينة ، محاولة منه لتغيير انطباعهم من جهة فالغالبية من أهل المدينة تعرف المتوكل وعداءه لأهل البيت عليهم السلام
وشيعتهم.
وحاول ثانياً أن يُبدي للإمام الهادي عليه السلام
أنّه يحترم رأيه ويقدّره ويعزّه ؛ لذا فقد أبدل والي المدينة بغيره ومن ثمّ جعل له الحرية في الشخوص إلى الخليفة كيف يشاء الإمام عليه السلام
.
وتلك أساليب إن كانت تغري العامة فالإمام عليه السلام
كان يدرك ما يرومه المتوكل ويهدف إليه في استدعائه .
وعلى أيّة حال فقد قدم يحيى بن هرثمة المدينة فأوصل الكتاب إلى بريحة ، وركبا جميعاً إلى أبي الحسن عليه السلام
فأوصلا إليه كتاب المتوكل فاستأجلهما ثلاثاً ، فلمّا كان بعد ثلاث عاد إلى داره فوجد الدواب مسرجة والأثقال مشدودة قد فرغ منها .
ولا نغفل عن تفتيش يحيى لدار الإمام عليه السلام
ممّا يعني أنّه كان مأموراً بذلك في الوقت الذي كان الكتاب ينفي عن الإمام أي اتّهام ضدّه .
ومن هنا نعلم أنّ استقدام الإمام عليه السلام
كان أمراً إلزامياً له وإن كان بصيغة
ــــــــــــــ
الاستدعاء ، وإلاّ فلِم هذا التفتيش الذي يكشف عن وجود سوء ظن بالإمام عليه السلام
بعد تلك الوشايات ؟! وخرج عليه السلام
بولده الإمام الحسن العسكري عليه السلام
وهو صبي مع يحيى بن هرثمة متوجّهاً نحو العراق واتبعه بريحة مشيّعاً فلمّا صار في بعض الطريق قال له بريحة : قد علمت وقوفك على أنّي كنت السبب في حملك وعليّ حلف بأيمان مغلّظة : لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو أحد من خاصته وأبنائه لأجمّرنّ نخلك ولأقتلنّ مواليك ولأعورنّ عيون ضيعتك ولأفعلنّ ولأصنعنّ ، فالتفت إليه أبو الحسن فقال له : إنّ أقرب عرضي إيّاك على الله البارحة وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكوك إلى غيره من خلقه .
قال : فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه فقال له : قد عفوت عنك
.
وأهم الإشارات ذات الدلالة في هذه الرواية : أنّ المتوكل أمر يحيى بن هرثمة برعاية الإمام عليه السلام
وعدم التشديد عليه ، وقد بلغ ذلك بريحة وخشي أن يشتكيه الإمام للمتوكل ، فتوعّد الإمام فعمد الإمام عليه السلام
إلى تركيز مفهوم إسلامي وهو مسألة الارتباط بالله سبحانه ، فإنّه هو الذي ينفع ويضر ويدفع عن عباده ؛ لذا أجاب الإمام عليه السلام
بريحة بأنّه قد شكاه إلى الله تعالى قبل يوم من سفره وأنّ الإمام عليه السلام
ليس في نيّته أن يشتكي بريحة عند الخليفة ممّا اضطرّ بريحة أن يعتذر من الإمام عليه السلام
ويطلب العفو منه ، فهو يعرف منزلة الإمام وآبائه عليهم السلام
وصلتهم الوثيقة بالله سبحانه ، فأخبره الإمام عليه السلام
بأنّه قد عفى عنه ، وكان الإمام يدرك أبعاد سلوك الخليفة إزاءه وما يرمي إليه من تفتيش داره وإشخاصه من المدينة إلى سامراء ، وإبعاده عن أهله ومواليه ومن ثمّ
ــــــــــــــ
وضعه تحت الرقابة المشدّدة ومعرفة الداخلين على الإمام المرتبطين به ؛ وبالتالي ضبط كل حركات الإمام عليه السلام
وتحرّكات قواعده ، فوجوده عليه السلام
في المدينة يعني بالنسبة للخليفة تمتّع الإمام عليه السلام
بحرية في التحرّك ، فضلاً عن سهولة وتيسّر سبل الاتصال به من قِبل القواعد الموالية للإمام عليه السلام
.
وقد كان الإمام عليه السلام
في كل تحرّكاته وحتى في كتبه ووصاياه إلى شيعته يتصف باليقظة والحذر ، ومن هنا كانت الوشايات به تبوء بالفشل ، وحينما كانت تكبس داره ـ كما حصل ذلك مراراً ـ لا يجد جلاوزة السلطان فيها غير كتب الأدعية والزيارات والقرآن الكريم ، حتى حينما تسوّروا عليه الدار لم يجدوه إلاّ مصلّياً أو قارئاً للقرآن .
وقال ابن الجوزي : إنّ السبب في إشخاص الإمام عليه السلام
من المدينة إلى سامراء ـ كما يقول علماء السّير ـ هو أنّ المتوكل كان يبغض عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام
وذريّته وخشي تأثيره في أهل المدينة وميلهم إليه
.
وهذا التعليل ينسجم مع كل تحفّظات الإمام عليه السلام
تجاه السلطان .