التوحيد أساس العقيدة الإسلامية، وسلامة تصورات المسلم عن
الله تعالى هي الركيزة الجوهرية التي تستند عليها باقي المفردات العقيدية، من هنا
كان الإمام عليه السلام يُعنى عناية شديدة بإيضاح هذا الأساس وتجليته، وفي المحاضرة
التي ألقاها على داود بن القاسم الجعفري دليل على ما قلناه.
فقد قال الجعفري: (قلت لأبي جعفر الثاني عليه السلام :(
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )
، ما معنى: الأحد ؟
قال:المجمع عليه بالوحدانية، أما
سمعته يقول: ( وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )
، ثم يقولون بعد
ذلك: له شريك وصاحبة .
فقلت: قوله:(
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ )
.
قال:ياأبا هاشم ! أوهام القلوب أدقّ
من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند والهند، والبلدان التي لم تدخلها، ولم
تدرك ببصرك ذلك، فأوهام القلوب لا تدركه، فكيف تدركه الأبصار ؟!
وسئل عليه السلام : أيجوز أن يقال لله: إنه شيء ؟ فقال:نعم،
تخرجه من الحدّين: حدّ التعطيل وحدّ التشبيه ) .
وعن أبي هاشم الجعفري، قال: (كنت عند أبي جعفر الثاني عليه
السلام فسأله رجل، فقال: أخبرني عن الرب تبارك وتعالى له أسماء وصفات في كتابه ؟
وأسماؤه وصفاته هي هو ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : (إن لهذا الكلام وجهين: إن كنت
تقول: هي هو، أي أنه ذو عدد وكثرة، فتعالى الله عن ذلك. وإن كنت تقول: هذه الصفات
والأسماء لم تزل، فإنّ (لم تزل) محتمل معنيين: فإن قلت: لم تزل عنده في علمه وهو
مستحقها، فنعم، وإن كنت تقول: لم يزل تصويرها وهجاؤها وتقطيع حروفها فمعاذ الله أن
يكون معه شيء غيره ، بل كان الله ولا خلق، ثم خلقها وسيلة بينه وبين خلقه يتضرعون
بها إليه ويعبدونه وهي ذكره، وكان الله ولا ذكر، والمذكور بالذكر هو الله القديم
الذي لم يزل.
والأسماء والصفات مخلوقات، والمعاني والمعني بها هو الله الذي
لا يليق به الاختلاف ولا الائتلاف، وإنما يختلف ويأتلف المتجزئ فلا يقال: الله
مؤتلف، ولا الله قليل ولا كثير، ولكنه القديم في ذاته، لأن ما سوى الواحد متجزئ،
والله واحد لا متجزئ، ولا متوهم بالقلة والكثرة وكل متجزئ او متوهم بالقلة والكثرة،
فهو مخلوق دالّ على خالق له.
ـــــــــ
فقولك: (إن الله قدير) خبّرت أنه لا يعجزه شيء، فنفيت بالكلمة
العجز وجعلت العجز سواه.
وكذلك قولك: (عالم) إنما نفيت بالكلمة
الجهل، وجعلت الجهل سواه، وإذا أفنى الله الأشياء أفنى الصورة والهجاء والتقطيع،
ولا يزال من لم يزل عالماً .
فقال الرجل: فكيف سمّينا ربنا سميعاً ؟
فقال:لأنه لا يخفى عليه ما يدرك
بالأسماع، ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس وكذلك سمّيناه بصيراً لأنه لا يخفى
عليه ما يدرك بالأبصار، من لون أو شخص أو غير ذلك، ولم نصفه ببصر لحظة العين وكذلك
سمّيناه لطيفاً لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وأخفى من ذلك، وموضع النشوء منها،
والعقل والشهوة للفساد والحدب على نسلها وإقام بعضها على بعض، ونقلها الطعام
والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والأودية والقفار، فعلمنا أن خالقها لطيف
بلا كيف، وإنما الكيفية للمخلوق المكيّف.
وكذلك قويّاً لا بقوة البطش المعروف من المخلوق، ولو كانت
قوته قوة البطش المعروف من المخلوق لوقع التشبيه ولاحتمل الزيادة، وما احتمل
الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصاً كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزاً.
فربّنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضدّ
ولا ندّ ولا كيف ولا نهاية ولا تبصار بصر، ومحرّم على القلوب أن تمثّله، وعلى
الأوهام أن تحدّه، وعلى الضمائر أن تكوّنه، جلّ وعزَّ عن أداة خلقه وسمات بريّته،
وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً) .
ـــــــــ