يشكّل وجود الإمام الجواد عليه السلام ـ كما أشرنا ـ برهاناً
على صحة عقيدة أهل البيت عليهم السلام في الإمامة ؛
وذلك لأن ظاهرة تولّي شخص في سنّ الطفولة لمنصب الإمامة وما رافقها من شؤون تستطيع
أن تقدم لنا دليلاً قاطعاً على سلامة هذه العقيدة التي يتميز بها مذهب أهل البيت عليهم السلام
عمّا سواه من المذاهب في قضية الإمامة باعتبارها منصباً ربّانياً لا يكون على أساس
الانتخاب والترشيح البشري وإنما يكون على أساس التعيين والنصب الإلهي لشخص تجتمع في
وجوده كل عناصر الكفاءة والقدرة الحقيقية لإدارة هذا المنصب الربّاني من قيادة
فكرية علمية ودينية وعملية للمؤمنين بإمامته ، بل للمسلمين جميعاً.
لقد أجمع المؤرخون على أن الإمام الجواد عليه السلام قد توفّي
أبوه عليه السلام وعمره لا يزيد على سبع سنين، وتولّى منصب الإمامة بعد أبيه وهو في
هذه السن من سنيّ الطفولة بحسب ظاهر الحال.
وهذه الظاهرة هي أوّل ظاهرة من نوعها في حياة أئمة أهل البيت عليهم السلام
.
ولو درسنا هذه الظاهرة على أساس المعايير الإلهية من جانب
والوقائع التاريخية، لوجدناها كافية لوحدها للاقتناع بحقّانية مدرسة الإمام الجواد
وخط أهل البيت عليهم السلام الذي كان يمثّله الإمام
الجواد عليه السلام .
إذ كيف يمكن أن نفترض فرضاً آخر غير فرض الإمامة الواقعية
الربّانية في شخص لا يزيد عمره عن سبع سنين ويقوم فعلاً بقيادة وهداية هذه الطائفة
في كل المجالات الروحية والفكرية والدينية الفقهية وغير الفقهية.
والفروض الأخرى التي لا يمكن افتراضها وقبولها هنا هي كما
يلي:
الفرض الأول:
أن الطائفة الشيعية التي آمنت بإمامة هذا الشخص لم ينكشف
لديها بوضوح أن هذا المدعي للإمامة هو صبي.
وهذا الفرض غير صحيح لأن زعامة الإمام من أهل البيت عليهم السلام
لم تكن زعامة محاطة بالشرطة والجيش وأبهة الملك والسلطان بحيث يحجب الزعيم عن
رعيّته. ولم تكن زعامة دعوة سرّية من قبيل الدعوات الصوفية وغيرها من الدعوات
الباطنية كالفاطمية التي تحجب بين القمة والقاعدة بها.
إن الإمام الجواد مثل غيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام
كان مكشوفاً أمام الطائفة وكانت الطائفة بكل طبقاتها تتفاعل معه مباشرة في مسائلها
الدينية وفي قضاياها الروحية والأخلاقية. إن الإمام الجواد عليه السلام نفسه كان قد
أصرّ على المأمون حينما استقدمه إلى بغداد في أن يسمح له بالرجوع إلى المدينة وسمح
له بالرجوع إلى المدينة فرجع وقضى بقية عمره أو أكثر عمره فيها.
وهكذا بقي الإمام الجواد عليه السلام مكشوفاً أمام مختلف
طبقات المسلمين بما فيهم الشيعة المؤمنون بزعامته وإمامته.
فافتراض أنه لم يكن مكشوفاً أمام شيعته بالخصوص خلاف طبيعة
العلاقة التي أنشئت منذ البداية بين أئمة أهل البيت عليهم السلام
وقواعدهم الشعبية هذا أوّلاً.
وثانياً أن الإمام الجواد عليه السلام كان قد سُلّطت عليه
أضواء خاصة من قبل الخليفة العباسي كما لاحظنا في القصة المعروفة عن تزويجه بأم
الفضل، وهكذا رصد العباسيين له عليه السلام للرد على موقف المأمون منه، وهو شاهد
آخر على بطلان احتمال عدم انكشافه أمام المسلمين.
الفرض الثاني:
أن المستوى الفكري والعلمي للطائفة الشيعية التي آمنت بالإمام
عليه السلام وقتئذٍ لم يكن بالمستوى المطلوب الذي تستطيع من خلاله أن تميّز الخطأ
من الصواب في مجال الإيمان بإمامة طفل يدّعي الإمامة وهو ليس بإمام.
وهذا الافتراض أيضاً مما يكذّبه الواقع التأريخي لهذه الطائفة
مع ما وصلت إليه من مستوى علميّ وفقهيّ.
فإنّ هذه الطائفة قد تربت على أيدي الإمام الباقر والصادق عليهما السلام
وكان فيها أكبر مدرسة للفكر الإسلامي في العالم الإسلامي على الإطلاق وهذه المدرسة
تتكوّن من جيلين متعاقبين: جيل تلامذة الإمام الصادق والكاظم عليهما السلام
، وجيل تلامذة تلامذتهم. وكان هذان الجيلان على رأس هذه الطائفة متميزين في ميادين
الفقه والتفسير والكلام والحديث والأخلاق ، بل كل جوانب المعرفة الإسلامية.
إذاً فالمستوى الفكري والعلمي لهذه الطائفة ما كان ليمكن أن
يُمرّر عليه مثل هذا الاعتقاد ما لم يكن له رصيد واقعي ودليل منطقي ومعقول ومُلزم
لمعتنقيه بالإيمان بهذه الإمامة المبكّرة التي تشكل تحدّياً لكل الظروف والواقع
المعاش الذي لا يستفيد معتنقيه من الإيمان به غير التحديد والضغط والمطاردة والقتل
والتهديد.
وإن أمكن لشخص أن يتصوّر أنّ رجلاً عالماً كبيراً مُحيطاً
مطّلعاً بلغ الخمسين أو الستّين يستطيع أن يقنع مجموعة من الناس بإمامته وهو ليس
بإمام لمجرد أنه يتصف بدرجة كبيرة من العلم والمعرفة والذكاء والاطلاع فليس
بالإمكان أن نفترض ذلك في شخص لم يبلغ العاشرة من عمره، إذ كيف يستطيع أن يقنع
طائفة كبرى بإمامته كذباً وهو مكشوف أمامها وهذه الطائفة ذات مدرسة فكرية من أضخم
المدارس الفكرية التي وجدت في العالم الإسلامي يومئذ. وهي مدرسة بعض عناصرها في
الكوفة وبعضها في قم وبعضها في المدينة، فهي مدرسة موزّعة في حواضر العالم الإسلامي
وكانت على صلة مباشرة بالإمام الجواد عليه السلام تستفتيه وتسأله وتنقل إليه
الأموال من مختلف الأطراف من شيعته. فمثل هذه المدرسة لا يمكن أن نتصوّر أنّها تغفل
عن حقيقة طفل لا يكون إماماً.
الفرض الثالث:
إن مفهوم الإمام والإمامة لم يكن واضحاً عند الطائفة الشيعية
، بل إنها كانت تتصوّر أن الإمامة مجرد تسلسل نسبي ووراثي ولم تكن تعرف ما هو
الإمام وما هي قيمة الإمام وما هي شروط الإمام.
وهذا الافتراض يكذّبه واقع التراث المتواتر من أمير المؤمنين
عليه السلام إلى الإمام الرضا عليه السلام عن شروط الإمامة وحقيقتها وعلامات الإمام
عند هذه الطائفة بنحو يميّزها عما سواها من الطوائف والمذاهب التي تجعل الإمامة
منصباً بشرياً لا يصعب لكثير من الناس التسلق إليه وانتحالها وادعائها.
بينما قام التشيّع على المفهوم الإلهي المعمّق للإمامة وهو من
المفاهيم الأولى والبديهية للتشيّع، فإنّ الإمام في المفهوم الشيعي إنسان فذّ فريد
في معارفه وأخلاقه وأقواله وأعماله. وهذا المفهوم قد بشّرت به مجموعة كبيرة من عهد
أمير المؤمنين عليه السلام إلى عهد الإمام الرضا عليه السلام
.
وقد أصبحت كل التفاصيل والخصوصيات بالتدريج واضحة ومرتكزة عند
الطائفة الشيعية.
يقول الراوي: دخلت المدينة بعد وفاة الإمام الرضا عليه السلام
أسأل عن الخليفة بعد الإمام الرضا عليه السلام . فقيل: إن الخليفة في قرية قريبة من
المدينة فخرجت إلى
ـــــــــ
تلك القرية ودخلت القرية وكان فيها بيت للإمام موسى بن جعفر
انتقل إلى أولاده. فرأيت البيت غاصّاً بالناس ورأيت أحد إخوة الإمام الرضا عليه
السلام كان جالساً يتصدّر المجلس إلاّ أن الناس يقولون : إن هذا ليس هو الإمام بعد
الرضا عليه السلام لأننا سمعنا من الأئمة أن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن
والحسين.
نعم ، كل هذه التفاصيل والخصوصيات النسبية والمعنوية كانت
واضحة ومحدّدة عند الطائفة. إذاً فهذا الافتراض الثالث أيضاً يكذّبه واقع التراث
الثابت والمتواتر عن الأئمة السابقين على الإمام الجواد عليه السلام .
الفرض الرابع:
أن يكون هناك بين أبناء الطائفة الشيعية نوع من التواطؤ على
الزور والباطل.
وهذا الافتراض أيضاً يكذّبه الواقع. لا لإيماننا الشخصي فقط
بورع هذه الطائفة وقدسيّتها، بل لأن الظرف الموضوعي لهذه الطائفة هو الذي يكذب هذا
الافتراض. فإن التشيع لم يكن في يوم من الأيام في حياة هذه الطائفة طريقاً إلى
الأمجاد وإلى المال والجاه والسلطان والمقامات العالية، بل التشيع طيلة هذه المدّة
كان طريقاً إلى التعرض للتعذيب والسجون والحرمان والويل والدمار. لقد كان التشيع
طريقاً شائكاً مزروعاً بالألغام، فالخوف والتقية والذل كانت هي مظاهر وثمار هذا
الطريق فما الفائدة المادية في التواطؤ على هذا الزور والباطل في الإمامة ما دام
التشيع ليس سبيلاً لتحقيق أي مطمع مادي أو مطمع دنيوي آنئذ.
فلماذا يتواطأ عقلاء الطائفة الشيعية ووجهاؤها وعلماؤها على
إمامة باطلة مع أن ثباتهم عليها يكلفهم كثيراً من ألوان الحرمان والعذاب، وأيّ عقل
يستسيغ مثل هذه التبعات إذا كان مجرّد تباني على أمر باطل.
إنّ هذه الظروف الموضوعية ألا تكون شاهداً ودليلاً على أن هذا
الاعتقاد إنما كان ناشئاً عن حقيقة ثابتة وملزمة لأبناء الطائفة قد وعوها وآمنوا
بها واستسلموا للوازمها وآثارها بالرغم من أنها كانت تكلّفهم حياتهم المادية على
طول الخط.
إذن لا يبقى إلاّ القبولبالافتراض
الأخير ، وهو : أن الإمام الجواد عليه السلام بدعواه
الإمامة المبكرة وتحدّيه لكل من وقف أمامه، وصموده أمام كل الإثارات والتساؤلات
والاختبارات شكّل دليلاً تاريخياً علمياً قاطعاً على حقّانية دعواه ومذهبه وخطّه ،
وهو خط أهل البيت عليهم السلام الذي كان يمثّله
الإمام الجواد عليه السلام في مجال إمامة المسلمين وزعامة الأمة الإسلامية التي
بدأت بالقيادة النبوية تلك الأمة التي خلّفها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
لتتكامل وتؤسّس الحضارة الإسلامية على أسس إلهية وقيم ربّانية.
وإن التراث القيّم الذي تركه لنا هذا الإمام العظيم لدليل
قاطع على عظمة الدور الذي قام به هذا الإمام في تبلور العقيدة الشيعية في مجال
القيادة الإسلامية التي أكّدتها الآيات القرآنية والنصوص النبوية الشريفة
.
ـــــــــ