تحدثنا عن دوافع المعتصم في اغتيال الإمام الجواد عليه السلام
وعن اختياره أم الفضل لتنفيذ الجريمة. ومما يشير إلى أسباب استغلال المعتصم لأُمّ
الفضل وكيفية تحريضها على الإقدام على قتل الإمام عليه السلام ما روي من شدة غيرتها
أيام أبيها وتوريطها لأبيها على ارتكاب جريمة قتل الإمام من قبل المأمون نفسه.
قال أبو نصر الهمداني: (حدثتني حكيمة بنت محمّد بن عليّ بن
موسى بن
ـــــــــ
جعفر عمّة أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام
قالت: لمّا مات محمّد بن عليّ الرّضا عليه السلام أتيت زوجته أم عيسى
بنت المأمون فعزّيتها فوجدتها شديدة الحزن والجزع عليه تقتل نفسها بالبكاء والعويل،
فخفت عليها أن تتصدّع مرارتها فبينما نحن في حديثه وكرمه ووصف خُلقه وما أعطاه الله
تعالى من الشّرف والإخلاص ومَنَحَهُ من العزّ والكرامة، إذ قالت أم عيسى: ألا أخبرك
عنه بشيء عجيب وأمر جليل فوق الوصف والمقدار ؟ قلت: وما ذاك ؟ قالت: كنت أغار عليه
كثيراً وأراقبه أبداً وربما يسمعني الكلام فأشكو ذلك إلى أبي فيقول يابنيّة احتمليه
فإنّه بضعة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فبينما أنا جالسة ذات يوم
إذ دخلت عليّ جارية فسلّمت، فقلت: من أنت ؟ فقالت: أنا جارية من ولد عمّار بن ياسر
وأنا زوجة أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السلام زوجك. فدخلني من الغيرة ما لا
أقدر على احتمال ذلك هممت أن أخرج وأسيح في البلاد وكاد الشيطان أن يحملني على
الإساءة إليها، فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها، فلمّا خرجت من عندي المرأة نهضت
ودخلت على أبي وأخبرته بالخبر وكان سكراناً لا يعقل. فقال: ياغلام عليّ بالسّيف،
فأتى به، فركب وقال: والله لأقتلنّه ، فلمّا رأيت ذلك قلت: إنا لله وإنا إليه
راجعون، ما صنعت بنفسي وبزوجي وجعلت ألطم حرّ وجهي، فدخل عليه والدي وما زال يضربه
بالسيف حتى قطعه.
ثم خرج من عنده وخرجت هاربة من خلفه فلم أرقد ليلتي فلمّا
ارتفع النّهار أتيت أبي فقلت: أتدري ما صنعت البارحة ؟ قال: وما صنعتُ ؟ قلت: قتلتَ
ابن
ـــــــــ
الرّضا عليه السلام ، فبرق عينه وغشي عليه ثم أفاق بعد حين
وقال: ويلك ما تقولين ؟ قلت: نعم والله يا أبه دخلت عليه ولم تزل تضربه بالسّيف حتى
قتلته، فاضطرب من ذلك اضطراباً شديداً وقال: عليّ بياسر الخادم فجاء ياسر. فنظر
إليه المأمون وقال: ويلك ما هذا الّذي تقول هذه ابنتي قال: صدقَتْ يا أمير المؤمنين
فضرب بيده على صدره وخدّه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون هلكنا بالله وعطبنا
وافتضحنا إلى آخر الأبد ، ويلك يا ياسر فانظر ما الخبر والقصة عنه عليه السلام ؟
وعجّل عليّ بالخبر فإن نفسي تكاد أن تخرج السّاعة فخرج ياسر وأنا ألطم حرّ وجهي،
فما كان ياسر من أن رجع، فقال: البشرى ياأمير المؤمنين. قال: لك البشرى فما عندك ؟
قال ياسر: دخلت عليه فإذا هو جالس وعليه قميص ودواج وهو يستاك فسلّمت عليه وقلت:
ياابن رسول الله أحب أن تهب لي قميصك هذا أصلي فيه وأتبرك به، وإنما أردت أن أنظر
إليه وإلى جسده هل به أثر السّيف فوالله كأنّه العاج الّذي مسّه صفرة ما به اثر.
فبكى المأمون طويلاً وقال: ما بقى مع هذا شيء إنّ هذا لعبرة للأوّلين والآخرين.
وقال: ياياسر أما ركوبي إليه وأخذي السّيف ودخولي عليه فإني
ذاكر له وخروجي عنه فلست أذكر شيئاً غيره ولا أذكر أيضاً انصرافي إلى مجلسي فكيف
كان أمري وذهابي إليه، لعن الله هذه الابنة لعناً وبيلاً، تقدّم إليها وقل لها يقول
لك أبوك والله لئن جئتني بعد هذا اليوم شكوت أو خرجت بغير إذنه لانتقمنّ له منك. ثم
سر إلى ابن الرّضا وابلغه عني السّلام واحمل إليه عشرين ألف دينار وقدّم إليه
الشهري الّذي ركبته البارحة، ثم أمر بعد ذلك الهاشميّين أن يدخلوا عليه بالسّلام
ويسلّموا عليه. قال ياسر: فأمرت لهم بذلك ودخلت أنا أيضاً معهم وسلّمت عليه وأبلغت
التّسليم ووضعت المال بين يديه وعرضت الشّهري عليه فنظر إليه ساعة ثم تبسّم.
فقال عليه السلام :(ياياسر هكذا كان
العهد بيننا وبينه حتّى يهجم علي، أما علم أن لي ناصراً وحاجزاً يحجز بيني وبينه)
. فقلت: ياسيّدي ، ياابن رسول الله ، دع عنك هذا العتاب واصفح، والله وحق جدّك رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يعقل شيئاً من أمره وما علم أين هو من أرض
الله وقد نذر لله نذراً صادقاً وحلف إن لا يسكر بعد ذلك أبداً، فإن ذلك من حبائل
الشّيطان، فإذا أنت ياابن رسول الله أتيته فلا تذكر له شيئاً ولا تعاتبه على ما كان
منه.
فقال عليه السلام :(هكذا كان عزمي
ورأيي والله) ، ثم دعا بثيابه ولبس ونهض وقام معه الناس أجمعون حتى دخل على
المأمون فلمّا رآه قام إليه وضمّه إلى صدره ورحّب به ولم يأذن لأحد في الدخول عليه
ولم يزل يحدّثه ويستأمره، فلمّا انقضى ذلك قال أبو جعفر محمّد بن علي الرّضا عليه
السلام :(يا أمير المؤمنين) ، قال: لبيّك وسعديك.
قال:(لك عندي نصيحة فاقبلها) .
قال المأمون: بالحمد والشكر فما ذاك ياابن رسول الله؟
قال عليه السلام :(أحب لك أن لا تخرج
باللّيل فإني لا آمن عليك من هذا الخلق المنكوس وعندي عقد تحصّن به نفسك وتحرّز به
من الشرور والبلايا والمكاره والآفات والعاهات، كما أنقذني الله منك البارحة ولو
لقيت به جيوش الرّوم والتّرك واجتمع عليك وعلى غلبتك أهل الأرض جميعاً ما تهيّأ لهم
منك شيء بإذن الله الجبّار. وإن أحببت بعثت به إليك لتحترز به من جميع ما ذكرت لك)
. قال: نعم، فاكتب ذلك بخطّك وابعثه إليّ، قال:(نعم)
.
قال ياسر: فلمّا أصبح أبو جعفر عليه السلام بعث إليَّ فدعاني
فلمّا صرت إليه وجلست بين يديه دعا برقّ ظبي من أرض تهامة ثم كتب بخطّه هذا العقد.
ثم قال عليه السلام :(ياياسر احمل هذا إلى أمير المومنين
وقل له: حتى يصاغ له قصبة من فضّة منقوش عليها ما أذكره بعده فإذا أراد شدّه على
عضده فليشدّه على عضده الأيمن وليتوضّأ وضوءاً حسناً سابغاً وليصل أربع ركعات يقرأ
في كلّ ركعة: فاتحة الكتاب مرّة وسبع مرّات: آية الكرسي وسبع مرات: شهد الله وسبع
مرّات والشمس وضحاها وسبع مرّات: واللّيل إذا يغشى وسبع مرّات: قل هو الله أحد.
فإذا فرغ منها فليشدّه على عضده الأيمن عند الشّدائد والنوائب يسلم بحول الله وقوته
من كلّ شيء يخافه ويحذره وينبغي أن لا يكون طلوع القمر في برج العقرب ولو أنه غزى
أهل الرّوم وملكهم لغلبهم بإذن الله وبركة هذا الحرز) .
وروي أنه لمّا سمع المأمون من أبي جعفر في أمر هذا الحرز هذه
الصفات كلّها غزا أهل الرّوم فنصره الله تعالى عليهم ومنح منهم من المغنم ما شاء
الله ولم يفارق هذا الحرز عند كلّ غزاة ومحاربة وكان ينصره الله عَزَّ وجَلَّ بفضله
ويرزقه الفتح بمشيّته أنَّه وليّ ذلك بحوله وقوته)
.
ويقول المؤرخون إن أم الفضل ارتكبت جريمتها بحقّ الإمام
الجواد عليه السلام عندما سقته السمّ. فقد روي: (أنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في
قتل أبي جعفر عليه السلام وأشار على ابنة المأمون زوجته بأن تسمّه لأنّه وقف على
انحرافها عن أبي جعفر عليه السلام وشدّة غيرتها عليه... فأجابته إلى ذلك وجعلت
سمّاً في عنب رازقي ووضعته بين يديه، فلمّا أكل منه ندمت وجعلت تبكي فقال:(ما
بكاؤك ؟ والله ليضربنّك الله بفقر لا ينجبر، وبلاء لا ينستر) ، فماتت بعلّة
في أغمض المواضع من جوارحها، صارت ناصوراً فانفقت مالها وجميع ما ملكته على تلك
العلّة، حتى احتاجت إلى الاسترفاد) .
وأثّر السمّ في الإمام تأثيراً شديداً حتى لفظ أنفاسه الأخيرة
ولسانه يلهج بذكر الله تعالى، وقد انطفأت باستشهاده شعلة مشرقة من الإمامة والقيادة
المعصومة في الإسلام.
لقد استشهد الإمام الجواد عليه السلام على يد طاغية زمانه
المعتصم العباسي وقد انطوت بموته صفحة من صفحات الرسالة الإسلامية التي أضاءت الفكر
ورفعت منار العلم والفضيلة في الأرض.
ـــــــــ