كان وجود الإمام الجواد عليه السلام يمثل خطراً على النظام
الحاكم لما كان يملكه هذا الإمام من دور فاعل وقيادي للأمة، لذلك قررت السلطة أن
تتخلّص منه مع عدم استبعادها وجود العلاقة بين الإمام القائد والتحركات النهضوية في
الأمة.
ـــــــــ
فقد روى المؤرخون عن زرقان صاحب ابن أبي دُوَاد قاضي المعتصم
قوله: (رجع ابن أبي دُوَاد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فقلت له في ذلك، فقال
وددت اليوم أني قد مت منذ عشرين سنة، قال قلت له: ولم ذاك ؟ قال: لما كان من هذا
الأسود أبي جعفر محمد بن علي بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قلت له:
وكيف كان ذلك ؟ قال: إن سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره بإقامة
الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه وقد أحضر محمد بن علي فسألناه عن القطع في
أي موضع يجب أن يقطع ؟ قال: فقلت: من الكرسوع. قال: وما الحجة في ذلك ؟ قال: قلت:
لأن اليد هي الأصابع والكفّ إلى الكرسوع ،
لقول الله في التيمم (
فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ
)
واتفق معي ذلك قوم.
وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال: وما الدليل على ذلك
؟ قالوا: لأن الله لمّا قال:(
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ ) في
الغسل دلّ ذلك على أن حدّ اليد هو المرفق.
قال: فالتفت إلى محمد بن علي عليه السلام فقال: ما تقول في
هذا ياأبا جعفر ؟ فقال:(قد تكلم القوم فيه ياأمير المؤمنين)
، قال: دعني ممّا تكلموا به ! أي شيء عندك ؟ قال:(اعفني عن
هذا ياأمير المؤمنين) ، قال: أقسمت عليك بالله لمّا أخبرت بما عندك فيه.
فقال:(أمّا إذا أقسمت عليّ بالله إني
أقول أنهم اخطئوا فيه السنّة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع، فيترك
الكفّ) ، قال: وما الحجة
ـــــــــ
في ذلك ؟ قال:(قول رسول الله: السجود
على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو
المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقال الله تبارك وتعالى:
( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ
لِلَّهِ )
يعني بهذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها
( فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ
أَحَداً ) وما كان
لله لم يقطع) .
قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع
دون الكفّ.
قال ابن أبي دواد: قامت قيامتي وتمنّيت أني لم أك حيّاً.
قال زرقان: قال ابن أبي دؤاد: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة،
فقلت: إن نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة وأنا أكلّمه بما أعلم أني أدخل به النار،
قال: وما هو ؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر واقع
من أمور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر
مجلسه أهل بيته وقوّاده ووزراؤه وكتّابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثمّ
يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل شطر هذه الأمة بإمامته، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه
ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء ؟
قال: فتغير لونه وانتبه لما نبّهته له، وقال: جزاك الله عن
نصيحتك خيراً. قال: فأمر اليوم الرابع فلاناً من وزرائه بأن يدعوه (أي الجواد عليه
السلام ) إلى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه وقال عليه السلام :(قد
علمت أني لا أحضر مجالسكم) ، فقال: إني إنما ادعوك إلى الطعام وأحب أن تطأ
ثيابي، وتدخل منزلي فأتبرّك بذلك، فقد أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقاءك
فصار إليه، فلمّا طعم منها أحس السمّ فدعا بدابّته فسأله رب المنزل أن يقيم. قال
عليه السلام :(خروجي من دارك خير لك) ، فلم يزل
ـــــــــ
يومه ذلك وليله في خلفة حتى قبض عليه السلام
)
.
لقد كان الإمام الجواد عليه السلام يتوقع استشهاده بعد هذا
الاستدعاء فقد روي عن إسماعيل بن مهران قوله: (لمّا أُخرج أبو جعفر عليه السلام من
المدينة إلى بغداد في الدفعة الأولى من خرجتيه قلت له عند خروجه: جُعلت فداك، إني
أخاف عليك من هذا الوجه، فإلى من الأمر بعدك ؟ قال: فكرّ بوجهه إليَّ فقال:(عند
هذه يُخاف عليّ، الأمرُ من بعدي إلى ابني علي) .
لقد درس المعتصم أكثر السبل التي يستطيع بها أن يصفي الإمام
فاعليةً وأقلَّها ضرراً، فلم يجد أفضل من أم الفضل بنت أخيه المأمون للقيام بهذه
المهمّة فهي التي تستطيع أن تقتله بصورة أكيدة دون أن تثير ضجة في الأمة، مستغلاً
نقطتين في شخصيتها، هما:
١ ـ كونها تنتمي للخط الحاكم انتماءً حقيقياً، فهي بنت
المأمون وعمّها المعتصم، وليست بالمستوى الإيماني الذي يجعلها تنفك عن انتمائها
النسبي هذا، لذلك كانت تخضع لتأثيراته وتنفذ ما يريده ضد الإمام.
٢ ـ غيرتها وحقدها على الإمام بسبب تسريه وتزوّجه من نساء
أخريات خصوصاً وأنها لم تلد للإمام وإنما رزق الإمام من غيرها ولده الهادي عليه
السلام .
ولقد كان أمر غيرتها شائعاً بين الناس لذلك قال المؤرخون:
(وقد روى الناس أن أم الفضل كتبت إلى أبيها من المدينة تشكو أبا جعفر وتقول: إنه
يتسرى
ـــــــــ
علي ويغيرني. فكتب إليها المأمون: يا بنيّة إنا لم نزوجك أبا
جعفر لنحرّم عليه حلالاً، فلا تعاودي لذكر ما ذكرت بعدها)
.
ولم تخل هذه الفترة من الاعتداءات الظاهرية على الإمام عليه
السلام من أذناب السلطة، ومن ذلك ما فعله عمر بن فرج الرخجي الرجل المعادي لأهل
البيت عليهم السلام والعامل عند السلطة العباسية.
فمثلاً روى المؤرخون عن محمد بن سنان قوله: دخلت على أبي الحسن الهادي عليه السلام
فقال:(يا محمد حدث بآل فرج حدث ؟) فقلت: مات عمر.
فقال:(الحمد لله على ذلك) ، أحصيت أربعاً وعشرين
مرة، ثم قال:(أو لا تدري ما قال ـ لعنه الله ـ لمحمد بن علي
أبي؟) قال: قلت: لا، قال:(خاطبه
في شيء، فقال: أظنّك سكران،
فقال أبي: اللهمّ إن كنت تعلم أني أمسيت لك صائماً
فأذقه طعم الحرب وذلّ الأسر. فوالله إن ذهبت الأيام حتى حُرب ماله، وما كان له، ثم
أُخذ أسيراً فهو ذا مات) .