قال المؤرخون: (لمّا أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا
جعفر محمد بن علي عليه السلام بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم، واستنكروه وخافوا أن
ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرّضا عليه السلام فخاضوا في ذلك واجتمع منهم أهل
بيته الأدنون منه. فقالوا: ننشدك الله ياأمير المؤمنين أن تقيم على هذا الأمر الذي
عزمت عليه من تزويج ابن الرضا فإنّا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملّكناه الله عَزَّ
وجَلَّ، وينزع منّا عزّاً قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم
قديماً وحديثاً، وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك، من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد
كنّا في وهلة من عملك مع الرضا عليه السلام ما عملت فكفانا الله المهم من ذلك.
فالله الله إن تردّنا إلى غمّ قد انحسر عنّا، واصرف رأيك عن ابن الرضا واعدل إلى
مَن تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره.
فقال لهم المأمون: أما ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب
فيه، ولو انصفتم القوم لكانوا أولى بكم وأمَّا ما كان يفعله من قبلي بهم، فقد كان
قاطعاً للرّحم، وأعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمت على ما كان منّي من استخلاف
الرضا عليه السلام ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله
قدراً مقدوراً.
وأما أبو جعفر محمد بن علي ، فقد اخترته لتبريزة على كافة أهل
الفضل في العلم والفضل، مع صغر سنه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس
ما قد عرفته منه، فيعلمون أن الرأي ما رأيت فيه.
فقالوا له: إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه فانه صبي لا معرفة
له ولا فقه، فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك.
فقال لهم: ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم وأن أهل هذا البيت
علمهم من الله تعالى وموادّه وإلهامه، ولم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن
الرعايا الناقصة عن حدّ الكمال، فإن شئتم فامتحنوا أبا جعفر بما يتبين لكم به ما
وصفت من حاله.
قالوا: قد رضينا لك ياأمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخلّ
بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة، فإن أصاب في الجواب عنه
لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه، وإن
عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه. فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى أردتم.
فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم، وهو
يومئذ قاضي الزمان على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة
على ذلك، وعادوا إلى المأمون وسألوه أن يختار لهم يوماً للاجتماع فأجابهم إلى ذلك.
فاجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا عليه وحضر معهم يحيى بن أكثم
وأمر المأمون أن يفرش لأبي جعفر دست ويجعل
له فيه مسورتان ففعل ذلك وخرج أبو جعفر وهو يومئذ ابن تسع سنين وأشهر فجلس بين
المسورتين وجلس يحيى بن أكثم بين يديه وقام الناس في مراتبهم والمأمون جالس في دست
متصل بدست أبي جعفر عليه السلام .
ـــــــــ
فقال يحيى بن أكثم للمأمون: يأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل
أبا جعفر عن مسألة ؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم،
فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام : (سل إن شئت).
قال يحيى: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيداً ؟
فقال أبو جعفر عليه السلام :(قتله في
حلّ أو في حرم، عالماً كان المحرم أو جاهلاً، قتله عمداً أو خطأ، حرّاً كان المحرم
أو عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أو معيداً، من ذوات الطير كان
الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد أم من كبارها، مصرّاً على ما فعل أو نادماً، في
الليل كان قتله للصيد أم في النهار، محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان
محرماً ؟)
فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع ولجلج حتى
عرف جماعة أهل المجلس أمره. فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في
الرأي ثم نظر إلى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه ؟ ثم أقبل على
أبي جعفر عليه السلام فقال له: أتخطب يا أبا جعفر ؟
فقال:نعم ياأمير المؤمنين .
فقال له المأمون: أخطب لنفسك جعلت فداك قد رضيتك لنفسي وأنا مزوّجك أم الفضل ابنتي
وإن رغم قوم ذلك.
فقال أبو جعفر عليه السلام :
(الحمد لله إقراراً بالنعمة، ولا اله إلاّ الله إخلاصاً
لوحدانيته وصلَّى الله على محمد سيد بريّته، والأصفياء من عترته.
أما بعد فقد كان من فضل الله على
الأنام، أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه:
( وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ
مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )
. ثم إن محمد بن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله
المأمون، وقد بذل لها من الصّداق مهر جدّته فاطمة بنت محمد
عليهما السلام وهو خمسمئة
درهم جياداً فهل زوّجته ياأمير المؤمنين بها على هذا الصداق المذكور ؟)
فقال المأمون: نعم قد زوّجتك ياأبا جعفر أم الفضل ابنتي على
الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح ؟
قال أبو جعفر عليه السلام
: (قد قبلت ذلك ورضيت به)
.
فأمر المأمون أن يقعد الناس على مراتبهم في الخاصة والعامة.
قال الريّان: ولم نلبث أن سمعنا أصواتاً تشبه أصوات الملاّحين
في محاوراتهم، فإذا الخدم يجرّون سفينة مصنوعة من فضة مشدودة بالحبال من الإبريسم،
على عجلة مملوّة من الغالية، ثم أمر المأمون أن تخضب لحاء الخاصة من تلك الغالية،
ثم مدّت إلى دار العامّة فتطيبوا منها ووضعت الموائد فأكل الناس وخرجت الجوائز إلى
كلّ قوم على قدرهم.
فلما تفرق الناس وبقي من الخاصة من بقي، قال المأمون لأبي
جعفر عليه السلام : إن رأيت جعلت فداك أن تذكر الفقه الذي فصّلته من وجوه من قتل
المحرم لنعلمه ونستفيده.
فقال أبو جعفر عليه السلام :(نعم ، إن
المحرم إذا قتل صيداً في الحلّ وكان الصيد من ذوات الطير، وكان من كبارها، فعليه
شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً، وإذا قتل فرخاً في الحلّ فعليه حمل
قد فطم من اللبن وإذا قتله في الحرم فعليه الحمل وقيمة الفرخ، فإذا كان من الوحش
وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة وإن كان ظبياً فعليه شاة وإن
كان قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هدياً بالغ الكعبة. وإذا أصاب
المحرم ما يجب عليه الهدي فيه، وكان إحرامه بالحجّ نحره بمنى، وإن كان إحرامه
بالعمرة نحره بمكة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه المأثم
وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده،
والصغير لا كفّارة عليه، وهي على الكبير واجبة والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة،
والمصرّ يجب عليه العقاب في الآخرة) .
فقال المأمون: أحسنت ياأبا جعفر أحسن الله إليك فإن رأيت أن
تسأل يحيى عن مسألة كما سألك.
فقال أبو جعفر عليه السلام ليحيى:(أسألك
؟) قال: ذلك إليك جعلت فداك، فإن عرفت جواب ما تسألني وإلا استفدته منك.
فقال له أبو جعفر عليه السلام :أخبرني
عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما ارتفع
النهار حلّت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلّت له، فلما غربت
الشمس حرمت عليه، فلما دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلما كان وقت انتصاف الليل
حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلّت له، ما حال هذه المرأة وبماذا حلّت له وحرمت عليه
؟) .
فقال له يحيى بن أكثم: لا والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال
ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيت أن تفيدناه.
فقال أبو جعفر عليه السلام :(هذه أمة
لرجل من الناس، نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراماً عليه، فلما
ارتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلما كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه،
فلما كان وقت العصر تزوّجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهَر منها فحرمت عليه،
فلما كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له، فلما كان نصف الليل طلّقها
واحدة، فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له) .
قال: فأقبل المأمون على من حضره من أهل بيته فقال لهم: هل
فيكم من يجيب هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال ؟
قالوا: لا والله إن أمير المؤمنين أعلم وما رأى.
فقال: ويحكم! إن أهل هذا البيت خصّوا من الخلق بما ترون من
الفضل، وإن صغر السنّ فيهم لا يمنعهم من الكمال. أما علمتم أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو
ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحداً في سنّه غيره، وبايع
الحسن والحسين عليهما السلام وهما ابنا دون الست سنين،
ولم يبايع صبياً غيرهما، أو لا تعلمون ما اختص الله به هؤلاء القوم؟! وإنهم ذرية
بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم. فقالوا: صدقت ياأمير المؤمنين ثم نهض
القوم.
فلما كان من الغد أُحضر الناس وحضر أبو جعفر عليه السلام وسار
القوّاد والحجّاب والخاصة والعمّال لتهنئة المأمون وأبي جعفر عليه السلام فأخرجت
ثلاثة أطباق من الفضة، فيها بنادق مسك وزعفران، معجون في أجواف تلك البنادق رقاع
مكتوبة بأموال جزيلة، وعطايا سنية، وإقطاعات، فأمر المأمون بنثرها على القوم من
خاصته فكان كل من وقع في يده بندقة أخرج الرقعة التي فيها والتمسه فأطلق يده له،
ووضعت البدر، فنثر ما فيها على القوّاد وغيرهم، وانصرف الناس وهم أغنياء بالجوائز
والعطايا. وتقدم المأمون بالصدقة على كافة المساكين، ولم يزل مكرماً لأبي جعفر عليه
السلام معظماً لقدره مدة حياته، يؤثره على ولده وجماعة أهل بيته)
.
ـــــــــ