أمّا المراكز الثقافية في عصر الإمام أبي جعفر عليه السلام
فهي:
١ ـالمدينة : وكانت المدينة من
أهم المراكز العلمية في ذلك العصر، فقد تشكّلت فيها مدرسة أهل البيت عليهم السلام
وقد ضمّت عيون الفقهاء والرواة من الذين سهروا على تدوين أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم السلام
وقد عنوا بصورة موضوعية بتدوين أحاديثهم الخاصة في الفقه الذي يمثل روح الإسلام
وجوهره، كما تشكّلت في المدينة مدرسة التابعين وهي مدرسة فقهية عنت بأخذ الفقه ممّا
روي عن الصحابة، ويرجع فيما لم يرو فيه عنهم حديث إلى ما يقتضيه الرأي والقياس حسب
ما ذكروه.
٢ ـالكوفة : وتأتي الكوفة بعد
المدينة في الأهمية، فقد كان الجامع الأعظم من أهم المعاهد، والمدارس الإسلامية،
فقد انتشرت فيه الحلقات الدراسية، وكان الطابع العام للدراسة هي العلوم الإسلامية
من الفقه والتفسير والحديث وغيرها.
وكانت الكوفة علوية الرأي، فقد عنت مدرستها بعلوم أهل البيت عليهم السلام
وقد حدّث الحسن بن علي الوشاء فقال: أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ
تسعمئة شيخ كلّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد
ومن أهم الأسر العلمية التي درست في ذلك الجامع هي آل حيّان التغلبي وآل أعين وبنو
عطيّة وبيت بني دراج وغيرهم .
ولم يكن الفقه وحده هو السائد في مدرسة الكوفة، وإنّما كان
النحو سائداً أيضاً، فقد أنشئت في الكوفة مدرسة النحويين، وكان من أعلامها
البارزين: الكسائي الذي عهد إليه الرشيد بتعليم ابنيه الأمين والمأمون، ومن الجدير
بالذكر إن هذا العلم الذي يصون اللسان عن الخطأ قد اخترعه الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام فهو الذي وضع قواعده وأصوله.
٣ ـالبصرة : وكانت مركزاً
مهمّاً لعلم النحو، وكان أوّل من وضع أساس مدرسة البصرة أبو الأسود الدؤلي تلميذ
الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وكانت هذه المؤسسة تنافس مدرسة الكوفة، وقد
سُمّي نُحاة البصرة (أهل المنطق) تمييزاً عن نُحاة الكوفة وكان من أعلام هذه
الصناعة سيبويه الفارسي، وهو صاحب (الكتاب )، الذي
هو من أنضج الكتب العربية وأكثرها عمقاً وأصالة يقولدي بور
: (فلو نظرنا إلى كتاب سيبويه لوجدناه عملاً ناضجاً، ومجهوداً عظيماً، حتى أنّ
المتأخّرين قالوا: إنّه لا بدّ أن يكون ثمرة جهود متضافرة لكثير من العلماء، مثل
قانون ابن سيناء) .
وكما كانت البصرة ميداناً لعلم النحو كذلك كانت مدرسة لعلم
التفسير الذي كان من علمائه البارزين أبو عمرو بن العلاء، وكانت مدرسة أيضاً لعلم
العروض الذي وضع أصوله الخليل بن أحمد صاحب كتاب (العين
) الذي هو أوّل معجم وضع في اللغة العربية.
ـــــــــ
٤ ـبغداد : حيث ازدهرت
بالحركات العلمية والثقافية، وقد انتشرت فيها المدارس والمعاهد ولم يعد هناك شيء
أيسر ولا أبذل من العلم. ولم تختص بغداد في علم خاص كما كانت بقية المراكز
الإسلامية، وإنّما شملت جميع أنواع العلوم العقلية والنقلية، وكذا سائر الفنون، وقد
أصبحت أعظم حاضرة علمية في ذلك العصر، وتوافد عليها طلاّب العلوم والمعرفة من جميع
أقطار الدنيا. يقولغوستاف لوبون : (كان العلماء
ورجال الفن والأدباء من جميع الملل والنحل من يونان وفُرس وأقباط وكلدان يتقاطرون
إلى بغداد، ويجعلون منها مركزاً للثقافة في الدنيا)، قال أبو الفرج عن المأمون: (إنّه
كان يخلو بالحكماء، ويأنس بمناظرتهم، ويلتذ بمذاكرتهم علماً منه بأنّ أهل العلم هُم
صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده .
هذه بعض المراكز الثقافية في ذلك العصر.