كان المأمون حذراً من الإمام الرضا عليه السلام يتحيّن الفرص
لاغتياله، وقد فعل ذلك في أول فرصة مناسبة فأوعز لعملائه باغتياله، وذلك بعد نحو
عامين من ولاية العهد. ففي أول شهر رمضان سنة إحدى ومئتين كانت البيعة للرضا صلوات
الله عليه وقبض الرضا عليه السلام بطوس من
أرض خراسان في صفر سنة ثلاث ومئتين وله يومئذ خمس وخمسون سنة..
.
عن أحمد بن علي الأنصاري قال: سألت أبا الصلت الهروي فقلت له:
كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه السلام مع إكرامه ومحبته له وما جعل له من
ولاية العهد بعده ؟ فقال: إن المأمون إنما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله وجعل له
ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنه راغب في الدنيا فيسقط محله من نفوسهم، فلما لم
يظهر منه في ذلك للناس إلاّ ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم جلب عليه
المتكلمين من البلدان طمعاً في أن يقطعه واحد منهم فيسقط محله عند العلماء، وبسببهم
يشتهر نقصه عند العامة فكان لا يكلمه خصم من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين
والبراهمة والملحدين والدهرية ولا خصم من فرق المسلمين المخالفين إلاّ قطعه وألزمه
الحجة، وكان الناس يقولون: والله إنه أولى بالخلافة من المأمون، وكان أصحاب الأخبار
يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده له، وكان الرضا عليه السلام لا يحابي
المأمون في حق وكان يجيبه بما
ـــــــــ
يكره في أكثر أحواله فيغيظه ذلك ويحقده عليه ولا يظهره له،
فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسم
.
وعن علي بن إبراهيم، عن ياسر الخادم قال: (لمّا كان بيننا
وبين طوس سبعة منازل اعتلّ أبو الحسن عليه السلام فدخلنا طوس وقد اشتدّت به العلّة،
فبقينا بطوس أياماً فكان المأمون يأتيه في كل يوم مرتين فلمّا كان في آخر يومه الذي
قبض فيه كان ضعيفاً في ذلك اليوم فقال لي بعدما صلّى الظهر:يا
ياسر أكل الناس شيئاً ؟ قلت: يا سيدي من يأكل ههنا مع ما أنت فيه؟! فانتصب
عليه السلام ثم قال:هاتوا المائدة ، ولم يدع من حشمه
أحداً إلاّ أقعده معه على المائدة يتفقد واحداً واحداً، فلما أكلوا قال:ابعثوا
إلى النساء بالطعام ، فحمل الطعام إلى النساء فلمّا فرغوا من الأكل أغمي
عليه وضعف، فوقعت الصيحة وجاءت جواري المأمون ونساؤه حافيات حاسرات، ووقعت الوصية
بطوس وجاء المأمون حافياً وحاسراً يضرب على رأسه، ويقبض على لحيته، ويتأسف ويبكي
وتسيل الدموع على خديه فوقف على الرضا عليه السلام وقد أفاق فقال: يا سيدي والله ما
أدري أي المصيبتين أعظم عليّ، فقدي لك وفراقي إياك؟ أو تهمة الناس لي أنا اغتلتك
وقتلتك؟ قال: فرفع طرفه إليه ثم قال:أحسن يا أمير المؤمنين
معاشرة أبي جعفر، فإنّ عمرك وعمره هكذا وجمع سبّابتيه. قال: فلما كان من تلك
الليلة قضى عليه السلام بعد ما ذهب من الليل بعضه، فلمّا أصبح اجتمع الخلق وقالوا:
هذا قتله واغتاله ـ يعني المأمون ـ وقالوا: قتل ابن رسول الله وأكثروا القول
والجلبة وكان محمد بن جعفر بن محمد عليه
السلام استأمن إلى المأمون وجاء إلى خراسان وكان عمّ أبي الحسن فقال له المأمون: يا
أبا جعفر
ـــــــــ
أخرج إلى الناس وأعلمهم أن أبا الحسن لا يخرج اليوم، وكره أن
يُخرِجه فتقع الفتنة فخرج محمد بن جعفر إلى الناس فقال: أيها الناس تفرقوا فإن أبا
الحسن لا يخرج اليوم، فتفرق الناس وغسل أبو الحسن في الليل ودفن)
.
وقد استطاع المأمون أن يخدع الكثيرين عندما أظهر حزنه وجزعه
على استشهاد الإمام الرضا عليه السلام وبصورة أثرت على العوام، لكنها لم تنطل على
الخواص. حيث إنهم عرفوا دوافع المأمون وأساليبه وأهدافه، كما لاحظنا ذلك في نصّ أبي
الصلت، وكما سنلاحظ ذلك في رسالة عبد الله بن موسى التالية.
طبيعة حكم المأمون
لقد شخّص السيد عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن
الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، طبيعة حكم المأمون وأساليبه برسالة تسلط
مزيداً من الأضواء على العلاقة بين هذا الحاكم وبين الإمام الجواد عليه السلام ،
فقد كان تشخيص هذا السيد دقيقاً وعميقاً، فقد كتب المأمون إلى عبد الله بن موسى وهو
متوار منه يعطيه الأمان ويضمن له أن يوليه العهد بعده، كما فعل بعلي بن موسى، ويقول:
ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعدما عملته بالرضا، وبعث الكتاب إليه.
فكتب عبد الله بن موسى:
وصل كتابك وفهمته، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال عليّ
حيلة المغتال القاصد لسفك دمي، وعجبت من بَذْلِك العهد وولايته لي بعدك، كأنك تظن
أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا؟! ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك ؟ أفي الملك الذي
قد غرتك حلاوته ؟! فوالله لأَنْ أُقذف ـ وأنا حي ـ في نار تتأجج أحب إليّ من أن ألي
أمراً بين المسلمين أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل، أم في العنب
المسموم الذي قتلت به الرضا ؟ أم ظننت أن الاستتار قد أمّلني وضاق به صدري؟ فوالله
إني لذلك. ولقد مللت الحياة وأبغضت الدنيا، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك
حتى تبلغ من قبلي مرادك لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر عليّ المخاطرة بدمي، وليتك
قدرتَ عليَّ من غير أن أبذل نفسي لك فتقتلني، ولقيت الله عَزَّ وجَلَّ بدمي،
ولقيتُه قتيلاً مظلوماً، فاسترحت من هذه الدنيا.
ـــــــــ
واعلم أني رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عَزَّ
وجَلَّ عنّي وفي عمل أتقرب به إليه، فلم أجد رأياً يهدي إلى شيء من ذلك، فرجعت إلى
القرآن الذي فيه الهدى والشفاء، فتصفحته سورة سورة، وآية آية، فلم أجد شيئاً أزلف
للمرء عند ربه من الشهادة في طلب مرضاته.
ثم تتبعته ثانية أتأمل الجهاد أيّه أفضل، ولأي صنف، فوجدته جلّ
وعلا يقول: (
قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) ، فطلبت أي
الكفار أضر على الإسلام، وأقرب من موضعي فلم أجد أضر على الإسلام منك، لأن الكفار
أظهروا كفرهم، فاستبصر الناس في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم، وأنت ختلت المسلمين
بالإسلام، وأسررت الكفر، فقتلت بالظنة، وعاقبت بالتهمة، وأخذت المال من غير حِلِّه
فأنفقته في غير محله، وشربت الخمر المحرمة صراحاً، وأنفقت مال الله على الملهين
وأعطيته المغنين، ومنعته من حقوق المسلمين، فغششت بالإسلام، وأحطت بأقطاره إحاطة
أهله، وحكمت فيه للمشرك، وخالفت الله ورسوله في ذلك خلافة المضاد المعاند، فإن
يسعدني الدهر، ويعينني الله عليك بأنصار الحق، أبذل نفسي في جهادك بذلاً يرضيه منّي،
وإن يمهلك ويؤخرك ليجزيك بما تستحقه في منقلبك، أو تختر مني الأيام قبل ذلك،فحسبي
من سعيي ما يعلمه الله عَزَّ وجَلَّ من نيتي، والسلام)
.
ـــــــــ