لقد استعرضنا أساليب الرشيد وسياسته الظالمة مع الإمام عليه السلام
، والآن نريد الحديث عن موقف الإمام عليه السلام
قبال هذه السياسة.
الإمام عليه السلام
وسياسة الرشيد
إنّ سيرة الإمام عليه السلام
ومواقفه من الرشيد لم تكن استسلامية بل كان الإمام عليه السلام
صلباً في مواقفه يتحدّى بها الرشيد، وان كان في بعضها شيء من المرونة في بعض الأحيان وذلك لمعرفة الإمام عليه السلام
به وبنواياه فكان يراعي في مواقفه المصالح العليا.
ونختار بعض المشاهد التي تعبّر عن حقيقة موقف الإمام عليه السلام
من حكومة الرشيد.
المشهد الأوّل:
عن محمد بن طلحة الأنصاري قال: كان مما قال هارون لأبي الحسن عليه السلام
حين أُدخل عليه: (ما هذه الدار؟ فقال عليه السلام
:هذه دار الفاسقين، قال الله تعالى:
(
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً
)
. فقال له هارون: فدار من هي؟ قال عليه السلام
:هي لشيعتنا فترة ولغيرهم فتنة
. قال: فما بال صاحب الدار لا يأخذها؟ فقال:أخذت منه عامرة ولا يأخذها إلا معمورة
. قال: فأين شيعتك ؟ فقرأ أبو الحسن عليه السلام
:(
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ
)
. قال: فقال له: فنحن كفار؟ قال عليه السلام
:لا ، ولكن كما قال الله:
(
الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ
)
. فغضب عند ذلك وغلظ عليه إذ قد لقيه أبو الحسن عليه السلام
بمثل هذه المقالة، وما رهبه وهذا خلاف قول من زعم أنه هرب منه من الخوف
.
المشهد الثاني:عن الإمام الكاظم
عليه السلام
قال: (قال لي هارون: أتقولون أن الخمس لكم؟
قلت:نعم
. قال: إنه لكثير. قال:قلت: إنّ الذي أعطاناه علم أنه لنا غير كثير
)
.
ــــــــــــ
المشهد الثالث:إنّ هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر
عليه السلام
: (حُدّ فدكاً حتى أردّها إليك، فيأبى حتى ألحّ عليه.
فقال عليه السلام
:لا آخذها إلاّ بحدودها.
قال: وما حدودها؟ قال عليه السلام
:إن حددتها لم تردّها
. قال: بحق جدّك إلاّ فعلت. قال عليه السلام
:أمّا الحد الأول فعدن
. فتغير وجه الرشيد وقال: إيهاً. قال عليه السلام
:والحد
الثاني
سمرقند
. فأربدّ وجهه. قال عليه السلام
:والحدّ
الثالث
أفريقية
. فأسودّ وجهه وقال: هيه قال عليه السلام
:والرابع
سيف
البحر
مما
يلي الجزر
وأرمينيه
. قال الرشيد: فلم يبق لنا شيء، فتحوّل إلى مجلسي! قال موسى عليه السلام
:قد أعلمتك أنني أن حددتها لم تردّها
. فعند ذلك عزم على قتله)
.
المشهد الرابع:
ولمّا دخل هارون الرشيد المدينة توجّه لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
ومعه الناس فتقدم الرشيد إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وقال: السلام عليك يا رسول الله يا ابن عمّ، مفتخراً بذلك على غيره فتقدم أبو الحسن عليه السلام
فقال:(السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبه)
فتغير وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه)
.
الإمام عليه السلام
والجماعة الصالحة
بعد أن عرفنا موقف الإمام موسى عليه السلام
من الرشيد، بقي أن نعرف نشاطه ولا سيّما فيما يخصّ الجماعة الصالحة حيث كان الإمام عليه السلام
قد قطع أشواطاً في منهجه التربوي في مراحل سابقة، فلابد أن يواصل بناءه في هذه المرحلة، لتعميق ما أسس له سابقاً، ولتوجيه الطاقات باتجاه الأهداف الكبرى التي كان يسعى لها الأئمة عليهم السلام
من تأصيل الامتداد الشيعي فيوسط الأُمة، وامتلاكه القدرة على مواجهة التحدّيات والوقوف أمام عمليات الإبادة التي بدأ الخلفاء بالتخطيط لها كلما شعروا بتوسيع دائرة أتباع الأئمة عليهم السلام
وقد لاحظنا هارون يصرّح بأنه لو أعطى الإمام عطاءه اللائق به لم يأمن أن يشهر الإمام ضدّه مائة ألف سيف لإزالة ملكه.
ونطالع نشاط الإمام عليه السلام
في عدة مجالات:
المجال السياسي:
قام الإمام موسى عليه السلام
بعدة خطوات تربوية مع شيعته في هذا المجال.
ــــــــــــ
الخطوة الأولى: تأكيد الانتماء السياسي لخطّ أهل البيت:
إنّ خطّ أهل البيت عليهم السلام
ومنهجهم هو خط الرفض للظلم والظالمين، ولقد تشدد عليه السلام
على محبيه وشيعته وحرّم عليهم الانفتاح أو التعاون مع السلطات العباسية الظالمة، وأخذ يعمّق في نفوسهم النزاهة والدقة في رفض الظلم، ليمتلكوا وعياً سياسياً يحصّنهم من الانجراف مع التيار الحاكم أو الاستجابة لمخططات الاحتواء بشكل وآخر.
إنّ موقفه عليه السلام
مع صفوان الجمّال يكشف دقّة المنهج التربوي عند الإمام مع شيعته في هذه المرحلة وتصعيد الإمام عليه السلام
لمستوى المواجهة مع الجهاز الحاكم من جهة وحرصه على تفتيت دعائم الحكم القائم حيث أخذ الرشيد يحصي على أهل البيت عليهم السلام
وشيعتهم أنفاسهم ويخطط لإبادتهم.
دخل صفوان بن مهران الأسدي على الإمام موسى الكاظم عليه السلام
فقال له:
(يا صفوان، كل شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً)
. قال: جعلت فداك، أي شيء هو؟ قال عليه السلام
:إكراؤك جمالك من هذا الرجل
، يعني هارون الرشيد! قال: والله ما أكريته أشراً ولا بطراً، ولا للصيد، ولا للهو ، ولكن لهذا الطريق ـ يعني طريق مكة ـ ولا أتولاّه بنفسي ولكن أبعث معه غلماني. قال عليه السلام
:يا صفوان أيقع كراك عليهم؟
قال: نعم جعلت فداك. قال عليه السلام
:أتحب بقاءهم حتى يخرج كراك؟
قال: نعم. قال عليه السلام
:من أحب بقاءهم فهو منهم، ومن كان منهم فهو وارد للنار
. وقام صفوان في الوقت فباع جماله وأعرض عن مهنته فبلغ ذلك هارون فأرسل خلفه، فلما مثل عنده قال له ـ وهو يتميّز من الغيظ ـ: يا صفوان! بلغني أنك بعت جمالك، قال: نعم قال: ولم؟ قال: أنا شيخ كبير ، وإنّ الغلمان لا يفون بالأعمال. قال: هيهات هيهات !! إني لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك موسى بن جعفر. قال: مالي ولموسى بن جعفر. قال: دع عنك هذا، فوالله لولا حسن صحبتك لقتلتك)
.
الخطوة الثانية: التأكيد على مبدأ التقية:
ومن الخطوات التي خطاها الإمام موسى عليه السلام
مع شيعته هو التشديد على أهمية الالتزام بالتقية كقيمة تحصينية، تحافظ على الوجود الشيعي وتقيه من الضربات الخارجية.
ــــــــــــ
روى معمّر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن موسى عليه السلام
عن القيام للولاة، فقال عليه السلام
:قال أبو جعفر
عليه السلام
: التقية ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له
.
وحدّث درست بن أبي منصور، قال: كنت عند أبي الحسن موسى عليه السلام
وعنده الكميت بن زيد، فقال له الإمام عليه السلام
:أنت الذي تقول:
فالآن صرت إلى أمية
=والأمور إلى مصائر
فقال الكميت: قد قلت ذلك ، والله ما رجعت عن إيماني، وإني لكم لموال ولعدوكم لقال، ولكن قد قلته على التقية فقال عليه السلام
:(إن التقية لتجوز على شرب الخمر)
.
الخطوة الثالثة: النفوذ في الجهاز الحاكم
ونشط الإمام موسى الكاظم عليه السلام
عن طريق أصحابه، بالنفوذ والاندساس في مواقع السلطة، فقد تصدّر أصحاب الإمام عليه السلام
مواقع سياسية مهمّة في الحكومة العبّاسية ، وكان الإمام عليه السلام
يُثني ويثمن عمل هؤلاء ، لكن كان يشترط التعاون وقضاء حوائج المؤمنين وإلا فإنه ينتفي غرض المهمة.
وإليك قائمة بأسماء أصحاب الإمام عليه السلام
الذين شغلوا مواقع مهمّة في السلطة العبّاسية، وكانوا من أعاظم العلماء وأجلاّئهم منهم:
١ ـ علي بن يقطين: نشأ يقطين بالكوفة وكان يبيع الأبزار وكان يقول بالإمامة، وقد اتّصل بأبي العباس السفاح والمنصور والمهدي، ولمّا انتقل يقطين إلى دار الحق قام ولده علي مقامه فاتّصل اتصالاً وثيقاً بالعبّاسيين، وتولّى المناصب المهمّة في الدولة وكان عوناً للمؤمنين، وقام بتزويج عدد منهم وكان يعيل قسماً كبيراً منهم.
ــــــــــــ
فقد حدّث سليمان كاتبه فقال: أحصيت لعلي من يحجّ عنه في عام واحد مئة وخمسين رجلاً أقلّ من أعطاه منهم سبعمئة درهم وأكثر من أعطاه عشرة آلاف درهم وزوّج ثلاثة أو أربعة من أولاد الإمام الكاظم عليه السلام
وانفق أموالاً ضخمة في وجوه البرّ والإحسان. وتقلّد أعلى منصب في أيام المهدي ومن بعده عيّنه هارون وزيراً له
وكان على اتّصال سرّي ودائم مع الإمام عليه السلام
.
٢ ـ حفص بن غياث الكوفي ، ولي القضاء ببغداد الشرقية من قبل هارون ثم تولّى قضاء الكوفة وتوفي سنة (١٩٤ هـ)
.
٣ ـ عبد الله بن سنان بن طريف، كان خازناً للمنصور والمهدي والهادي والرشيد
.
٤ ـ الفضل بن سليمان الكاتب البغدادي، كان يكتب للمنصور والمهدي
.
٥ ـ محمد بن إسماعيل بن بزيع من صلحاء الطائفة ومن عيونها وأحد
ــــــــــــ
رواة حديث الإمام موسى عليه السلام
كان، مولى للمنصور وأحد وزراء الدولة العبّاسية
.
٦ ـ الحسن بن راشد مولى بني العبّاس: كان وزيراً للمهدي وموسى الهادي وهارون الرشيد
.
لقد كان هؤلاء بعض أصحاب الإمام موسى الكاظم عليه السلام
ورواة حديثه.
ومن هنا نستطيع أن نقدّر مدى حنكة الإمام عليه السلام
وتخطيطه للمحافظة على المواقع المهمة لأبناء الجماعة الصالحة في جهاز السلطة من إقرار فضلاء صحابته على قبولهم ولاية الحاكم الجائر فإنّهم أعلم بهذا الخط وشؤونه من عامة المؤمنين.
المجال التربوي:
إنّ وصايا الإمام الكاظم عليه السلام
وتوجيهاته لشيعته تلاحظ حاجة الواقع الموجود لإكمال بناء هذه الجماعة الصالحة باتّجاه الأهداف النهائية التي رسمها أهل البيت عليهم السلام
لها.
ومن هنا نجد الإمام عليه السلام
يتابع شيعته ويشرف على تكامل بناء هذه الجماعة وأفرادها فيقوم بتطبيق ما يدعو إليه عملياً لتشكل خطواته نموذجاً ومناراً يهتدي به أبناء مدرسته. ولهذا المجال يمكن أن نستشهد بعدّة أمثلة:
المثال الأول:
(موقفه عليه السلام
من علي بن يقطين عندما أراد أحد المؤمنين أن يدخل على علي بن يقطين ولم يأذن له لنلاحظ تعبير الإمام (بأخيك) ليؤكد أن وجودك يا علي في هذا المنصب هو لخدمة هؤلاء لا لشيء ، ومن هنا أذن له الإمام بالبقاء ، بل أمره بالبقاء عندما أراد أن يعتزل من هذا الموقع. عن محمد بن علي الصوفي قال: استأذن إبراهيم الجمّال (رضي الله عنه) على أبي الحسن علي بن يقطين الوزير فحجبه.
فحجّ علي بن يقطين في تلك السنة فاستأذن بالمدينة على مولانا موسى بن جعفر عليه السلام
فحجبه. فرآه ثاني يومه فقال علي بن يقطين: يا سيدي ما ذنبي؟ فقال عليه السلام
:حجبتك لأنك حجبت أخاك إبراهيم الجمّال وقد أبى الله أن يشكر سعيك أو يغفر لك إبراهيم الجمّال
.
فقلت: سيدي ومولاي من لي بإبراهيم الجمّال في هذا الوقت وأنا بالمدينة وهو بالكوفة؟
فقال عليه السلام
:إذا كان الليل فامض إلى البقيع وحدك من غير أن يعلم بك أحد من أصحابك وغلمانك واركب نجيباً هناك مسرّجاً
.
ــــــــــــ
قال: فوافى البقيع وركب النجيب ولم يلبث أن أناخه على باب إبراهيم الجمّال بالكوفة.
فقرع الباب وقال: أنا علي بن يقطين
فقال إبراهيم الجمّال من داخل الدار: وما يعمل علي بن يقطين الوزير ببابي؟!
فقال علي بن يقطين: يا هذا إنّ أمري عظيم وآلى عليه أن يأذن له، فلمّا دخل قال: يا إبراهيم إنّ المولى عليه السلام
أبى أن يقبلني أو تغفر لي، فقال: يغفر الله لك.
فآلى علي بن يقطين على إبراهيم الجمّال أن يطأ خدّه فامتنع إبراهيم من ذلك فآلى عليه ثانياً ففعل.
فلم يزل إبراهيم يطأ خده وعلي بن يقطين يقول: اللّهم أشهد، ثم انصرف وركب النجيب، وأناخه في ليلته بباب المولى موسى بن جعفر عليه السلام
بالمدينة فأذن له ودخل عليه فقبله)
.
المثال الثاني:
حرص الإمام موسى عليه السلام
على قضاء حوائج المؤمنين واهتم بها وهو في أحلك الظروف وأشدّها قساوة، فقد حثّ الشيعة على التمسك بهذا المبدأ الأخلاقي، بل أمر بعض الخواص بالبقاء في جهاز السلطة الظالمة لأجل قضاء حوائج المؤمنين.
من هنا ندرك مستوى اهتمامه ومدى سعيه لتحقيق هذا المبدأ في فكر وسلوك أبناء الجماعة الصالحة.
عن محمد بن سالم قال: (لمّا حمل سيدي موسى بن جعفر عليه السلام
إلى هارون جاء إليه هشام بن إبراهيم العباسي، فقال له: يا سيدي قد كُتب لي صك إلى الفضل بن يونس تسأله أن يروح أمري.
قال: فركب إليه أبو الحسن عليه السلام
فدخل عليه حاجبه فقال: يا سيدي! أبو الحسن موسى بالباب فقال: فإن كنت صادقاً فأنت حرّ ولك كذا وكذا!
فخرج الفضل بن يونس حافياً يعدو حتى خرج إليه: فوقع على قدميه يُقبّلهما ثم سأله أن يدخل، فدخل فقال له:اقض حاجة هشام بن إبراهيم
)، فقضاها
.
ــــــــــــ
المثال الثالث:
تسديد الإمام عليه السلام
لمهمة علي بن يقطين ودعمه له:
روي عن علي بن يقطين: (أنه كتب إلى موسى بن جعفر عليه السلام
: اُختلف في المسح على الرجلين، فإن رأيت أن تكتب ما يكون عملي عليه فعلت. فكتب أبو الحسن عليه السلام
:(الذي آمرك به أن تتمضمض ثلاثاً وتستنشق ثلاثاً، وتغسل وجهك ثلاثاً، وتخلّل شعر لحيتك ثلاثاً، وتغسل يديك ثلاثاً، وتمسح ظاهر أذنيك وباطنها وتغسل رجليك ثلاثاً، ولا تخالف ذلك إلى غيره)
، فامتثل أمره وعمل عليه.
فقال الرشيد: أحبّ أن أستبرئ أمر علي بن يقطين، فإنهم يقولون إنه رافضي، والرافضة يخففون في الوضوء. فناطه بشيء من الشغل في الدار، حتى دخل وقت الصلاة، ووقف الرشيد وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو، وقد بعث إليه بالماء للوضوء فتوضّأ كما أمره موسى عليه السلام
.
فقام الرشيد وقال: كذب من زعم أنك رافضي.
فورد على علي بن يقطين كتاب موسى بن جعفر عليه السلام
توضأ من الآن كما أمر الله:اغسل وجهك مرّة فريضة، والأخرى إسباغاً، فاغسل يديك من المرفقين كذلك، وامسح مقدّم رأسك، وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما يخاف عليك
)
.
وعن ابن سنان (أنّ الرشيد حمل في بعض الأيام إلى علي بن يقطين ثياباً أكرمه بها وكان في جملتها دراعة خز سوداء من لباس الملوك مثقلة بالذهب.
فأنفذ علي بن يقطين جل تلك الثياب إلى أبي الحسن موسى ابن جعفر عليه السلام
وأنفذ في جملتها تلك الدراعة، وأضاف إليها مالاً كان أعدّه له على رسم له فيما يحمله إليه من خمس ماله. فلمّا وصل ذلك إلى أبي الحسن قبل المال والثياب، وردّ الدراعة على يد الرسول إلى علي بن يقطين وكتب إليه:أن احتفظ بها، ولا تخرجها عن يدك ، فسيكون لك بها شأن، تحتاج إليها معه
، فارتاب علي بن يقطين بردّها عليه، ولم يدر ما سبب ذلك، فاحتفظ بالدراعة فلمّا كان بعد أيّام تغيّر علي بن يقطين على غلام كان يختص به فصرفه عن خدمته، وكان الغلام يعرف ميل علي بن يقطين إلى أبي الحسن عليه السلام
ويقف على ما يحمله إليه في كل وقت من مال وثياب وألطاف وغير ذلك.
ــــــــــــ
فسعى به إلى الرشيد فقال: إنه يقول بإمامة موسى بن جعفر، ويحمل خمس ماله في كل سنة وقد حمل إليه الدراعة التي أكرمه بها أمير المؤمنين فيوقت كذا وكذا. فاستشاط الرشيد لذلك، وغضب غضباً شديداً، وقال لأكشفنّ عن هذه الحال فإن كان الأمر كما يقول أزهقت نفسه. وأنفذ في الوقت بإحضار علي بن يقطين فلمّا مثل بين يديه، قال له: ما فعلت بالدراعة التي كسوتك بها؟ قال: هي يا أمير المؤمنين عندي في سفط مختوم، فيه طيب، وقد احتفظت بها، وقلّما أصبحت إلا وفتحت السفط، فنظرت إليها تبركاً بها، وقبّلتها ورددتها إلى موضعها وكلما أمسيت صنعت مثل ذلك.
فقال: أحضرها الساعة قال: نعم يا أمير المؤمنين، واستدعى بعض خدمه، وقال له: إمض إلى البيت الفلاني من الدار، فخذ مفتاحه من خزانتي فافتحه وافتح الصندوق الفلاني، وجئني بالسفط الذي فيه بختمه.
فلم يلبث الغلام أن جاءه بالسفط مختوماً فوضع بين يدي الرشيد فأمر بكسر ختمه وفتحه. فلمّا فتح نظر إلى الدراعة فيه بحالها، مطوية مدفونة في الطيب. فسكن الرشيد من غضبه ثم قال لعلي بن يقطين: أُرددها إلى مكانها فلن أُصدق عليك بعدها ساعياً. وأمر أن يتبع بجائزة سنية، وتقدم بضرب الساعي ألف سوط، فضرب نحواً من خمسمئة فمات في ذلك)
.
المجال العلمي والفكري:
لقد كان عهد الصادقين عليهما السلام
عهد الانفراج النسبي لمدرسة أهل البيت عليهم السلام
حيث استطاعت أن تنشر علوم أهل البيت عليهم السلام
وتخرّج الأساتذة والعلماء المسؤولين والأمناء على حفظ تراث هذا الخطّ الرسالي بين أبناء الأمة الإسلامية.
ومن هنا فقد تكاملت لأبناء هذه المدرسة في عهدهما الأسس المتينة التي أرساها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم
والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
من بعده في المنهج والمحتوى والأسلوب.
وكان عصر الإمام الكاظم عليه السلام
الذي استمر ثلاثة عقود أو ما يزيد عليها قليلاً ـ استمراراً للمسيرة العلمية والثقافية التي حقّقها الصادقان عليهما السلام
حتى تخرج في عهده عليه السلام
عدد مهم من الفقهاء الرواة الذين أصبحوا بمستوى
ــــــــــــ
العطاء الذي قدمه الإمام الكاظم عليه السلام
للأمة الإسلامية في حقلي النظرية والتطبيق معاً ـ كما سيتضح ذلك فيما سوف نراه من تبلور كثير من القواعد الأصولية والفقهية في مجال الاجتهاد الفقهي في هذه المدرسة العملاقة.
ثمّ إنّ انتشار التشيع واتّساع حجم الولاء والانتماء لخط أهل البيت عليهم السلام
بالمعنى الخاص الذي يتميّز عن الخط العباسي بعد جهود الصادقين عليهما السلام
كان من نصيب عهد الإمام الكاظم عليه السلام
.
واتساع القاعدة كان يتطلب توسّع نشاط القيادة في رعاية شؤون الأتباع وصيانة الجماعة الصالحة من أنواع المزالق والانحرافات والعقبات.
على أن كثرة السؤال عن قضايا الشريعة أصولاً وفروعاً لاتساع دائرة الانتماء ولتطور الزمن مع استعداد مدرسة أهل البيت عليهم السلام
للاستجابة للمستجدات ، كل هذا تطلب نشاطاً أكبر وأوسع من القيادة المتمثلة في الإمام الكاظم عليه السلام
بالرغم من حراجة الظرف بعد استشهاد الإمام الصادق عليه السلام
وعدم التوجيه العام حول إمامة موسى الكاظم عليه السلام
لكل أبناء الطائفة ...
من هنا كان الإمام عليه السلام
بحاجة إلى توظيف عدد من أصحابه الأخصّاء به لإدارة شؤون الجماعة الصالحة بتقبّل الوكالة عن الإمام والتحرك لجمع الأموال والحقوق التي رسم لها أهل البيت نظاماً ومنهجاً خاصاً يكفل للجماعة الصالحة استمرار وجودها وتطورها واستحكام أسسها بنحو يجعلها قادرة على مواجهة التحديات المستمرة.
وهذا هو الذي كان يخشاه الخلفاء، كلٌ بمقدار نباهته وغوره إلى عمق هذا الخط.. حتى أثار هذا النشاط الواسع والخط التثقيفي المعمق حفيظة هارون الرشيد تجاه شخص الإمام الكاظم عليه السلام
حيث كان يراه الندّ الحقيقي الذي يهدد سلطانه.
وكان هارون جرئياً في الإقدام على سجن الإمام وعزله عن قواعده. ولكنّ أصحاب الإمام عليه السلام
كانوا على اتصال مستمر به وهو في قيد السجن. وكان هذا التخطيط يعدّ تطوراً واضحاً في التعامل مع الأحداث واستغلالاً للظروف الحرجة أحسن استغلال لإكمال المسيرة الربّانية إلى حيث الأهداف المبتغاة منها.
وقد تمثل العطاء العلمي والفكري للإمام الكاظم عليه السلام
في مجالات:
١ ـ الرواية
٢ ـ التدريس
٣ ـ المناظرة
٤ ـ التأليف
كما تنوّعت مجالات الرواية والتأليف والمناظرة والتدريس إلى الحقول العلمية المختلفة، كما يشهد لذلك تنوّع التراث الذي وصلنا عن الإمام الكاظم عليه السلام
، ونستطيع أن نلمس ذلك بكل وضوح من خلال مطالعة مسنده الذي يبلغ ثلاثة أجزاء فيما يقرب من ألف صفحة تقريباً.
وقد اشتمل على أنواع المعرفة العقائدية والتاريخية والتربوية والأخلاقية والأحكام الشرعية والأدعية والزيارات وما يرتبط بمجال توثيق الرجال وسائر ما يرتبط ببيان عصر الإمام الكاظم عليه السلام
واحتجاجاته مع الحكام والمخالفين أو ما يرتبط بمدرسته العلمية المتمثّلة في المتخرجين من طلابه والنابهين من صحابته.
وقد بلغت بعض تأليفات أصحاب الإمام حجماً هائلاً مثل ما ألّفه هشام بن الحكم وصفوان بن يحيى بيّاع السابري والحسن بن محمد بن سماعة الكندي حيث بلغت الكتب المؤلفة لكل منهم ثلاثين مؤلفاً.
كما ألّف علي بن الحسن الطاطري أربعة عشر كتاباً والحسن بن محبوب السراد ستة كتب وعبد الله بن جبلة سبعة كتب وعلي بن يقطين ثلاثة كتب. وهذا هو بعض النشاط العلمي لصحابة الإمام عليه السلام
.
منهج الاستنباط والتفقه في الدين:
ونلتقي في تراث الإمام الكاظم عليه السلام
بنصوص ترتبط بحرمة القول بغير علم وحجية الظواهر وحجية خبر الواحد ونصوص ترتبط بعلاج حالات التعارض بين الأحاديث ونصوص ترتبط بالمنع من القياس ونصوص ترتبط بأصالة البراءة ووجوب الموافقة القطعية في أطراف العلم الإجمالي والاستصحاب وعدم جواز الرجوع إلى الأصل قبل الفحص عن الدليل.. وهذه النصوص تشير إلى أن الإمام عليه السلام
كان بصدد إرساء قواعد ومنهج الاستنباط والتفقه في دين الله.
وإذا لاحظنا النصوص التي تقدّم لنا مجموعة مهمة من القواعد الفقهية إلى جانب غيرها من النصوص التي تتضمّن الأحكام الفقهية التي أثرت عنه عليه السلام
فإننا نستيقن بأن الإمام عليه السلام
كان يخطط لتكامل المدرسة الفقهية الاجتهادية ويربّي العلماء على منهجها بحيث يضمن للرسالة خلودها ولخط أهل البيت عليهم السلام
الدوام والحضور الفاعل في ميادين الحياة رغم كل التحديات
.
المناظرات في عصر الإمام الكاظم
عليه السلام
من الأنشطة الفكرية الواسعة الصيت في عصر الإمام الكاظم عليه السلام
والمؤثرة في تبلور فكر الأمة هي المناظرة العلمية، وكان الإمام الصادق عليه السلام
ثم الإمام الكاظم عليه السلام
من بعده قد استثمرا هذه الظاهرة وأعدّا لها نخبة من العلماء المتخصصين في هذا الميدان تعاهدوا للدفاع عن مذهب أهل البيت عليهم السلام
وتعريفه للناس واستطاعوا رغم المنع السلطوي والحصار الفكري ضدهم أن يروّجوا للمذهب ويحققوا انتصارات مشهودة. كما قد نشطوا من جانب في دحض الشبهات والاتهامات التي كانت تثار ضد الفكر الإسلامي أو الشيعي واستطاعوا أن يقفوا بوجه الموجات الفكرية الانحرافية والحركات الإلحادية.
ــــــــــــ
ومن جملة أصحاب الإمامين الصادق والكاظم عليهما السلام
البارزين في هذا الميدان هشام بن الحكم. كان هشام بن الحكم من أفذاذ الأمة الإسلامية ومن كبار علمائها وفي طليعة المدافعين عن خط أهل البيت عليهم السلام
. جاهد طويلاً لنصرة الحق خصوصاً في عصر الرشيد، الذي انعدمت فيه الحريات، وكان الذاكر لفضائل أهل البيت عليهم السلام
عرضة للانتقام والتنكيل من قبل السلطة. كان من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام
وبعد وفاته اتّصل بالإمام الكاظم عليه السلام
. واختص في علم الكلام فكان من كبار المتكلمين في عصره، وشهد له بذلك ابن النديم.
ونظراً لاختصاصه في هذا الفن فقد زيّن يحيى بن خالد البرمكي مجلسه به وجعله قيماً لمجالس كلامه
. وخاض هشام مع علماء الأديان والمذاهب مستدلاً على صحة مبدأه وبطلان أفكارهم.
ونظراً لخطورة استدلاله وقوة حجته كان الرشيد يحضر من وراء الستار فيصغي إليها ويعجب بها، ولقد خاض في عدة مناظرات مع زعيم المعتزلة الروحي عمرو بن عبيد
.
ووجه يحيى بن خالد البرمكي سؤالاً لهشام بحضرة الرشيد من أجل إحراجه قائلاً له: أخبرني عن علي والعباس لما اختصما إلى أبي بكر في الميراث أيهما كان المحق من المبطل؟ فاستولت الحيرة على هشام لأنه قال في نفسه: إن قلت علياً كان مبطلاً كفرت وإن قلت العباس كان مبطلاً ضرب الرشيد عنقي. فقال هشام: لم يكن من أحدهما خطأ وكانا جميعاً محقين، ولهذا نظير قد نطق به القرآن في قصة داود عليه السلام
حيث يقول الله:
(
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ
)
، إلى قوله تعالى :(
خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ
)
فأي الملكين كان مخطئاً؟ وأيهما كان مصيباً؟ أم تقول : إنهما كانا مخطئين فجوابك في ذلك جوابي بعينه.
فقال يحيى: لست أقول: الملكين أخطآ، بل أقول إنهما أصابا وذلك أنهما لم يختصما في الحقيقة ولا اختلفا في الحكم وإنما أظهرا ذلك لينبّها داود على الخطيئة ويعرّفاه الحكم ويوقفاه عليه.
ــــــــــــ
فقال هشام: كذلك علي والعباس لم يختلفا في الحكم ولا اختصما في الحقيقة وإنما أظهرا الاختلاف والخصومة لينبّها أبا بكر على غلطه ويوقفاه على خطيئته ويدلاّه على ظلمه في الميراث ولم يكونا في ريب من أمرهما فتحيّر يحيى ولم يطق جواباً، واستحسن الرشيد هذا البيان الرائع الذي تخلص به هشام
.
وله مناظرات من هذا القبيل مع العالم النظام
ومع ضرار الضبي
فراجع مناظراته في موسوعة بحار الأنوار في ما يختص بحياة صحابة الإمام الكاظم عليه السلام
.
وهكذا استطاع أهل البيت عليهم السلام
من خلال خيرة أصحابهم أن يحفظوا للأمة المسلمة هويّتها ويدافعوا عن شخصيّتها المعنوية واستقلال كيانها الفكري والديني.