وتتابعت المحن على سليل النبوّة وعملاق الفكر الإسلامي ـ الإمام الصادق عليه السلام
ـ في عهد المنصور الدوانيقي ـ فقد رأى ما قاساه العلويون وشيعتهم من ضروب المحن والبلاء ، وما كابده هو بالذات من صنوف
ـــــــــــــــــ
الإرهاق والتنكيل ، فقد كان الطاغية يستدعيه بين فترة وأخرى ، ويقابله بالشتم والتهديد ولم يحترم مركزه العلمي ، وشيخوخته ، وانصرافه عن الدنيا إلى العبادة ، وإشاعة العلم ، ولم يحفل الطاغيه بذلك كلّه ، فقد كان الإمام شبحاً مخيفاً له ونعرض ـ بإيجاز ـ للشؤون الأخيرة من حياة الإمام ووفاته .
وأعلن الإمام الصادق عليه السلام
للناس بدنوّ الأجل المحتوم منه ، وان لقاءه بربّه لقريب ، وإليك بعض ما أخبر به :
أ ـ قال شهاب بن عبد ربّه : قال لي أبو عبد الله عليه السلام
:كيف بك إذا نعاني إليك محمد بن سليمان ؟
قال : فلا والله ما عرفت محمد بن سليمان مَن هو فكنت يوماً بالبصرة عند محمد بن سليمان ، وهو والي البصرة إذ ألقى إليّ كتاباً ، وقال لي : يا شهاب ، عظّم الله أجرك وأجرنا في إمامك جعفر بن محمد قال : فذكرت الكلام فخنقتني العبرة
.
ب ـ أخبر الإمام عليه السلام
المنصور بدنوّ أجله لمّا أراد الطاغية أن يقتله فقد قال له :ارفق فو الله لقلّ ما أصحبك
. ثم انصرف عنه ، فقال المنصور لعيسى بن علي : قم اسأله ، أبي أم به ؟ ـ وكان يعني الوفاة ـ .
فلحقه عيسى ، وأخبره بمقالة المنصور ، فقال عليه السلام
:لا بل بي
.
وتحقّق ما تنبّأ به الإمام عليه السلام
فلم تمضِ فترة يسيرة من الزمن حتى وافته المنيّة .
كان الإمام الصادق عليه السلام
شجي يعترض في حلق الطاغية الدوانيقي ، فقد ضاق ذرعاً منه ، وقد حكى ذلك لصديقه وصاحب سرّه محمد بن عبد الله
ـــــــــــــــــ
الاسكندري .
يقول محمد : دخلت على المنصور فرأيته مغتمّاً ، فقلت له : ما هذه الفكرة ؟
فقال : يا محمد لقد هلك من أولاد فاطمةعليهاالسلام
مقدار مائة ويزيدون ـ وهؤلاء كلّهم كانوا قد قتلهم المنصور ـ وبقي سيّدهم وإمامهم .
فقلت : مَن ذلك ؟
فقال : جعفر بن محمد الصادق .
وحاول محمد أن يصرفه عنه ، فقال له : إنّه رجل أنحلته العبادة ، واشتغل بالله عن طلب الملك والخلافة .
ولم يرتض المنصور مقالته فردّ عليه : يا محمد قد علمتُ أنّك تقول به ، وبإمامته ولكنّ الملك عقيم
.
وأخذ الطاغية يضيّق على الإمام ، وأحاط داره بالعيون وهم يسجّلون كل بادرة تصدر من الإمام ، ويرفعونها له ، وقد حكى الإمام عليه السلام
ما كان يعانيه من الضيق ، حتى قال :( عزّت السلامة ، حتى لقد خفي مطلبها ، فإن تكن في شيء فيوشك أن تكون في الخمول ، فإن طلبت في الخمول فلم توجد فيوشك أن تكون في الصمت ، والسعيد مَن وجد في نفسه خلوة يشتغل بها )
.
لقد صمّم على اغتياله
غير حافل بالعار والنار ، فدسّ إليه سمّاً فاتكاً على يد عامله فسقاه به ، ولمّا تناوله الإمام عليه السلام
تقطّعت أمعاؤه وأخذ يعاني الآلام القاسية ، وأيقن بأنّ النهاية الأخيرة من حياته قد دنت منه .
ـــــــــــــــــ
ولمّا شعر الإمام عليه السلام
بدنوّ الأجل المحتوم منه أوصى بعدّة وصايا كان من بينها ما يلي :
أ ـ إنّه أوصى للحسن بن علي المعروف بالأفطس بسبعين ديناراً ، فقال له شخص : أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة ؟ فقال عليه السلام
له :ويحك ما تقرأ القرآن؟! :
(
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ
)
.
لقد أخلص الإمام عليه السلام
كأعظم ما يكون الإخلاص للدين العظيم ، وآمن بجميع قيمه وأهدافه ، وابتعد عن العواطف والأهواء ، فقد أوصى بالبرّ لهذا الرجل الذي رام قتله ؛ لأنّ في الإحسان إليه صلة للرحم التي أوصى الله بها .
ب ـ إنّه أوصى بوصاياه الخاصّة ، وعهد بأمره أمام الناس إلى خمسة أشخاص : وهم المنصور الدوانيقي ، ومحمد بن سليمان ، وعبد الله ، وولده الإمام موسى ، وحميدة زوجته .
وإنّما أوصى بذلك خوفاً على ولده الإمام الكاظم عليه السلام
من السلطة الجائرة ، وقد تبيّن ذلك بوضوح بعد وفاته ، فقد كتب المنصور إلى عامله على يثرب ، بقتل وصي الإمام ، فكتب إليه : إنّه أوصى إلى خمسة ، وهو أحدهم ، فأجابه المنصور : ليس إلى قتل هؤلاء من سبيل
.
ج ـ إنّه أوصى بجميع وصاياه إلى ولده الإمام الكاظم عليه السلام
وأوصاه بتجهيزه وغسله وتكفينه ، والصلاة عليه ، كما نصبه إماماً من بعده ، ووجّه خواصّ شيعته إليه وأمرهم بلزوم طاعته .
ـــــــــــــــــ
د ـ إنّه دعا السيّدة حميدة زوجته ، وأمرها بإحضار جماعة من جيرانه ، ومواليه ، فلمّا حضروا عنده قال لهم :( إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة )
.
وأخذ الموت يدنو سريعاً من سليل النبوّة ، ورائد النهضة الفكرية في الإسلام ، وفي اللحظات الأخيرة من حياته أخذ يوصي أهل بيته بمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات ، ويحذّرهم من مخالفة أوامر الله وأحكامه ، كما أخذ يقرأ سوراً وآيات من القرآن الكريم ، ثم ألقى النظرة الأخيرة على ولده الإمام موسى الكاظم عليه السلام
، وفاضت روحه الزكيّة إلى بارئها .
لقد كان استشهاد الإمام من الأحداث الخطيرة التي مُني بها العالم الإسلامي في ذلك العصر ، فقد اهتزّت لهوله جميع أرجائه ، وارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميين وغيرهم ، وهرعت الناس نحو دار الإمام وهم ما بين واجم ونائح على فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذاً ومفزعاً لجميع المسلمين .
وقام الإمام موسى الكاظم عليه السلام
، وهو مكلوم القلب ، فأخذ في تجهيز جثمان أبيه ، فغسل الجسد الطاهر ، وكفّنه بثوبين شطويين
كان يحرم فيهما ، وفي قميص وعمامة كانت لجدّه الإمام زين العابدين عليه السلام
، ولفّه ببرد اشتراه الإمام موسى عليه السلام
بأربعين ديناراً وبعد الفراغ من تجهيزه صلّى عليه الإمام موسى الكاظم عليه السلام
وقد ائتم به مئات المسلمين .
وحمل الجثمان المقدّس على أطراف الأنامل تحت هالة من التكبير ، وقد غرق الناس بالبكاء وهم يذكرون فضل الإمام وعائدته على هذه الأمة بما بثّه من الطاقات العلمية التي شملت جميع أنواع العلم ، وجيء بالجثمان العظيم
ـــــــــــــــــ
إلى البقيع المقدّس ، فدُفن في مقرّه الأخير بجوار جدّه الإمام زين العابدين وأبيه الإمام محمد الباقر عليهما السلام
وقد واروا معه العلم والحلم ، وكل ما يسمو به هذا الكائن الحيّ من بني الإنسان
.
ويناسب أن نختم الكلام عن الإمام الصادق عليه السلام
برثائه على لسان أحد أصحابه وهو أبي هريرة العجلي بقوله :
أقول وقد راحوا به يحملونه
|
|
على كاهل من حامليه وعاتق
|
أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى
|
|
ثبيراً ثوى من رأس علياء شاهق
|
غداة حثى الحاثون فوق ضريحه
|
|
تراباً ، وأول كان فوق المفارق
|
ـــــــــــــــــ