لقد كانت الفترة الأخيرة من حياة الإمام الصادق عليه السلام
مع حكومة المنصور فترة تشدّد ومراقبة لحركة الإمام ، تخلّلتها محاولات اغتيال عديدة ، لكنّ الإمام عليه السلام
علم أنّ المنصور قد صمّم على قتله ؛ ولهذا مارس جملة من الأنشطة ليهيّئ فيها الخط الشيعي لمواصلة الطريق من بعده .
ـــــــــــــــــ
النشاط الأوّل :
حاول الإمام الصادق عليه السلام
أن يجعل من الصف الشيعي صفّاً متماسكاً في عمله ونشاطه ، وركّز على قيادة الإمام الكاظم عليه السلام
من بعده فيما لو تعرّض لعملية قتل من قِبل المنصور وقد قطع الطريق أمام المنتفعين والأدعياء الذين كانوا يتربّصون الفرص ; لأنّ إسماعيل ابن الإمام الصادق عليه السلام
الذي كان قد توفّي في هذه الفترة كان يصلح كفكرة لتفتيت الصفّ الشيعي باعتباره الابن التقي الأكبر للإمام عليه السلام
.
والغريب أنّا نجد ـ رغم التأكيدات المتكرّرة ـ والحزن الذي أبداه الإمام عليه السلام
والتصريح الذي أبداه أمام حشد كبير من أعيان الشيعة بأنّ إسماعيل قد توفّي ودفن استغلال بعضهم لقضية إسماعيل وزعمهم بأنّ الإمامة تقع في إسماعيل وأنّه حيّ وقد خرج في البصرة وشاهده بعض الناس .
وهنا يقوم الإمام الصادق عليه السلام
بجملة من الخطوات لمعالجة هذه المشكلة التي سوف تُفتّت الصفّ الشيعي من بعده .
١ ـ قال زرارة بن أعين : دعا الإمام الصادق عليه السلام
داود بن كثير الرقي ، وحمران بن أعين ، وأبا بصير ، ودخل عليه المفضّل بن عمر وأتى بجماعة حتى صاروا ثلاثين رجلاً فقال :( يا داود اكشف عن وجه إسماعيل )
، فكشف عن وجهه ، فقال :( تأمّله يا داود ، فانظره أحيّ هو أم ميّت ؟ )
فقال : بل هو ميّت فجعل يعرّضه على رجل رجل حتى أتى على أخرهم فقال :( اللّهمّ اشهد )
ثم أمر بغسله وتجهيزه .
ثم قال : (يا مفضّل احسر عن وجهه
، فحسر عن وجهه ) ، فقال :( أحيّ هو أم ميت ؟ انظروه أجمعكم )
فقال : بل هو يا سيّدنا ميّت .
فقال :( شهدتم بذلك وتحقّقتموه )
؟ قالوا : نعم ، وقد تعجّبوا من فعله .
فقال :( اللّهمّ اشهد عليهم )
ثم حمل إلى قبره ، فلمّا وضع في لحده ، قال :
( يا مفضل ، اكشف عن وجهه )
فكشف ، فقال للجماعة :( انظروا أحيّ هو أم
ميّت ؟ )
فقالوا : بل ميّت ، يا وليّ الله .
فقال :( اللّهمّ اشهد فإنّه سيرتاب المبطلون
(
يريدون أن يطفئوا نور الله
)
)
ـ ثم أومى إلى موسى عليه السلام
وقال :(
والله مُتمّ نوره ولو كره الكافرون
)
.
ثم حثّوا عليه التراب ، ثم أعاد علينا القول فقال :( الميّت المكفّن المدفون في هذا اللحد مَن هو ؟ )
قلنا : إسماعيل ولدك .
فقال :( اللّهمّ اشهد )
ثم أخذ بيد موسى فقال :( هو حق ، والحق معه ومنه ، إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها )
.
٢ ـ قال عنبسة العابد : لمّا مات إسماعيل بن جعفر بن محمد عليهما السلام
وفرغنا من جنازته ، جلس الصادق عليه السلام
وجلسنا حوله وهو مطرق ، ثم رفع رأسه فقال :
( أيّها الناس : إنّ هذه الدنيا دار فراق ، ودار التواء لا دار استواء ، على أنّ فراق المألوف حرقة لا تدفع ، ولوعة لا تردّ ، وإنّما يتفاضل الناس بحسن العزاء وصحّة الفكر ، فمَن لم يشكل أخاه شكله أخوه ، ومَن لم يقدم ولداً هو المقدم دون الولد )
، ثم تمثّل بقول أبي خراش الهذلي يرثي أخاه :
ولا تحسبي أنّي تناسيت عهده
|
|
ولكنّ صبري يا أُميم جميل
|
٣ ـ قال إسحاق بن عمار : وصف إسماعيل أخي لأبي عبد الله عليه السلام
دينه واعتقاده فقال : إنّي أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله وأنّكم ـ ووصفهم يعني الأئمة ـ واحداً واحداً حتى انتهى إلى أبي عبد الله ثم قال : وإسماعيل من بعدك ! قال :( أمّا إسماعيل فلا )
.
النشاط الثاني :
رغم الحرب الباردة التي كانت بين المنصور والإمام الصادق عليه السلام
نلاحظ أنّ الإمام قد مارس بعض الأدوار مع السلطة لغرض الحفاظ على الأمة وسلامة مسيرتها وإبقاء روح الرفض قائمة في نفوسها ، مخافة أن تسبّب ممارسات المنصور حالة من الانكسار للشيعة حين الاستجابة لمخطّطاته .
١ ـ قال أبو جعفر المنصور للإمام الصادق عليه السلام
: إنّي قد عزمت على أن أخرّب المدينة ولا أدع فيها نافخ ضرمة .
فقال :( يا أمير المؤمنين ! لا أجد بُدّاً من النصاحة لك ، فاقبلها إن شئت أو لا )
.
ثم قال عليه السلام
:( إنّه قد مضى لك ثلاثة أسلاف : أيوب
عليه السلام
ابتلي فصبر ، وسليمان
عليه السلام
أُعطي فشكر ، ويوسف
عليه السلام
قدر فغفر فاقتد بأيّهم شئت )
قال : قد عفوت
.
٢ ـ قال عبد الله بن سليمان التميمي : لمّا قُتل محمد وإبراهيم ابنا عبد الله ابن الحسن صار إلى المدينة رجل يقال له شبّة عقال ، ولاّه المنصور على أهلها ، فلمّا قدمها وحضرت الجمعة صار إلى المسجد فرقى المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال :
أمّا بعد فإنّ علي بن أبي طالب شقّ عصا المسلمين ، وحارب المؤمنين ، وأراد الأمر لنفسه ، ومنعه أهله فحرّمه الله عليه وأماته بغصّته وهؤلاء ولده يتبعون أثره في الفساد وطلب الأمر بغير استحقاق له ، فهم في نواحي الأرض مقتولون ، وبالدماء مضرّجون .
ـــــــــــــــــ
قال : فعظم هذا الكلام منه على الناس ، ولم يجسر أحد منهم أن ينطق بحرف فقام إليه رجل عليه إزار قومسي سخين فقال :ونحن نحمد الله ونصلّي على محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى رسل الله وأنبيائه أجمعين أمّا ما قلت من خير فنحن أهله ، وما قلت من سوء فأنت وصاحبك به أولى وأحرى يا مَن ركب غير راحلته وأكل غير زاده ، ارجع مأزوراً
.
ثم أقبل على الناس ، فقال :ألا آتينّكم بأخفّ الناس ميزاناً يوم القيامة ، وأبينهم خسراناً ؟ : من باع آخرته بدنيا غيره ، وهو هذا الفاسق
.
فأسكت الناس ، وخرج الوالي من المسجد ولم ينطق بحرف .
فسألت عن الرجل : فقيل لي : هذا جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام
.
النشاط الثالث :
وهو نشاط الإمام الصادق عليه السلام
الخاص مع الشيعة في هذا الظرف العصيب وأساليب الاتّصال معهم .
وقد ذكرنا في البحوث السابقة أن الإمام قد ركّز على مبادئ إسلامية وممارسات إصلاحية في نفوس شيعته ، مثل التقيّة ، وكتمان السر ، والعلاقة بالثورة الحسينية لتحافظ هذه المبادئ والممارسات على الوجود الشيعي وتقيه من الضربات والمخطّطات الخارجية .
والرواية التالية تصوّر لنا نشاط الإمام السري مع صحبه في هذهِ الفترة .
روي أنّ الوليد بن صبيح قال : كنّا عند أبي عبد الله عليه السلام
في ليلة إذ طرق الباب طارق ، فقال للجارية : انظري من هذا ؟
ـــــــــــــــــ
فخرجت ثم دخلت فقالت : هذا عمّك عبد الله بن علي عليه السلام
فقال : أدخليه وقال لنا : ادخلوا البيت فدخلنا بيتاً ، فسمعنا منه حسّاً ، ظننّا أن الداخل بعض نسائه ، فلصق بعضنا ببعض ، فلما دخل أقبل على أبي عبد الله عليه السلام
فلم يدع شيئاً من القبيح إلاّ قاله في أبي عبد الله عليه السلام
ثم خرج وخرجنا ، فأقبل يحدّثنا من الموضع الذي قطع كلامه .
فقال بعضنا : لقد استقبلك هذا بشيء ما ظننّا أنّ أحداً يستقبل به أحداً ، حتى لقد همّ بعضنا أن يخرج إليه فيوقع به .
فقال عليه السلام
مه ، لا تدخلوا فيما بيننا .
فلمّا مضى من الليل ما مضى ، طرق الباب طارق فقال للجارية : انظري مَن هذا ؟ فخرجت ، ثم عادت ، فقالت : هذا عمّك عبد الله بن علي عليه السلام
فقال لنا : عودوا إلى مواضعكم ، ثم أذن له .
فدخل بشهيق ونحيب وبكاء وهو يقول : يا بن أخي ، اغفر لي غفر الله لك ، اصفح عنّي صفح الله عنك .
فقال :غفر الله لك يا عمّ ، ما الّذي أحوجك إلى هذا ؟
قال : إنّي لمّا أويت إلى فراشي أتاني رجلان أسودان فشدّا وثاقي ، ثم قال أحدهما للآخر : انطلق به إلى النار : فانطلق بي ، فمررت برسول الله فقلت : يا رسول الله ، لا أعود فأمره فخلّى عنّي ، وأنّي لأجد ألم الوثاق .
فقال أبو عبد الله عليه السلام
: أوص .
قال : بم أوصي ؟ ما لي مال ، وإن لي عيالاً كثيرة وعليّ دين .
فقال أبو عبد الله عليه السلام
:دينك عليّ ، وعيالك عيالي ، فأوص
.
فما خرجنا من المدينة حتى مات ، وضمّ أبو عبد الله عليه السلام
عياله إليه ،
وقضى دينه ، وزوّج ابنه ابنته
.
وأغلب الظن أنّ نشاط الإمام الصادق عليه السلام
من هذا النوع قد تركّز أيام المنصور لكثرة الجواسيس والعيون التي كانت ترصد حركة الإمام عليه السلام
ممّا دفع بالإمام إلى أن يلجأ إلى عقد الاجتماعات في بيته سرّاً لغرض مواصلة دوره الإلهي مع الأمة عن طريق توجيه النخبة الصالحة التي وُفّقت لهذا الدور .