بعد أن حقّق المؤتمر غرضه وأنِسَ الحاضرون بقراره الكاذب نشط إبراهيم الإمام في الاتجاه الآخر ليواصل عمله بشكل مستقل عن أعضاء المؤتمر فأصدر عدّة قرارات سرّية كعادته منها : أنّه كتب إلى شيعته في الكوفة وخراسان : إنّي قد أمّرت أبا مسلم بأمري فاسمعوا له وأطيعوا ، قد أمّرته على خراسان ، وما غلب عليه كان ذلك سنة ( ١٢٨ هـ ) وكان أبو مسلم لا يتجاوز عمره التسعة عشر سنة ووصفوه بأنّه كان يقظاً فاتكاً غادراً لا يعرف الرحمة ولا الرأفة ، وكان ماهراً في حياكة الدسائس .
ودهش الجميع لتعيين أبي مسلم في هذا المنصب الخطير نظراً لحداثة سنّه وقلّة تجاربه ، وأبى جمع من الدعاة طاعته والانصياع لأوامره إلاّ أنّ إبراهيم الإمام ألزمهم السمع والطاعة
وأقدم أبو مسلم فيما بعد على إعدام جميع من عارض اختياره لقيادة هذه المنطقة .
أمّا ما هو الخط الذي سوف يتحرّك بموجبه أبو مسلم لإعلان ثورته هناك ؟ فقد جاء هذا الخط في وصيّة إبراهيم الإمام له عندما قال : يا عبد الرحمن إنّك منّا أهل البيت فاحفظ وصيّتي ، انظر هذا الحي من اليمن
ـــــــــــــــــ
فأكرمهم ، وحلّ بين ظهرانيهم ، فإنّ الله لا يتم هذا الأمر إلاّ بهم ، وانظر هذا الحي من ربيعه فاتهمهم في أمرهم ، وانظر هذا الحي من مضر فإنّهم العدو القريب الدار ، فاقتل مَن شككت في أمره ومَن وقع في نفسك منه شيء ، وإن شئت أن لا تدع بخراسان مَن يتكلّم العربية فافعل ، فأيّما غلام بلغ خمسة أشبار فاقتله
وهذه الوصيّة تلخّص السياسة العباسية مع المسلمين .
وقد أثّر أبو مسلم الخراساني في الناس لتعاطفه معهم حيث كان يتمتّع بصفات تؤهّله لهذا الموقع ، فهو خافض الصوت فصيح بالعربية والفارسية ، حلو المنطق راوية للشعر ، لم يُر ضاحكاً ولا مازحاً إلاّ في وقته ، ولا يكاد يُقَطّب في شيء من أحواله ، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور ، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يُرى مكتئباً وعندما سُئل إبراهيم الإمام عن أهلية أبي مسلم قال : إنّي قد جرّبت هذا الأصبهاني ، وعرفت ظاهره وباطنه فوجدته حَجَر الأرض
.
وكان محبوباً حتى عند غير المسلمين حيث نجد دهاقين المجوس اندفعوا إلى اتّباعه وأظهروا الإسلام على يديه ، كما استجاب للدعوة الإسلامية عدد كبير من أهل الآراء الخارجة عن الإسلام ، كل ذلك للظلم والجور الذي لحق بهم من الولاة الأمويين ، وبسبب ما شاهدوه من العطف من أبي مسلم الخراساني ؛ ولذا كان الكثير منهم يعتبرونه وحده الإمام ، واعتقدوا أنّه أحد أعقاب زرادشت الذي ينتظر المجوس ظهوره ، حتى أنّهم لم يعتقدوا بموت أبي مسلم بل كانوا ينتظرون رجعته
.
ـــــــــــــــــ
ومن جانب آخر أنّه هو الذي أنزل جثمان يحيى بن زيد وصلّى عليه ودفنه ، وبعد أن تقلّد المنصب كقائد عام للعسكر توجّه من فوره لخراسان ليقود الجماهير التي تنتظر الأوامر منه ، وكانت متحمّسة قبل هذا الحين للحرب مع الأمويين فخطب بالدعاة قائلاً : أشعروا قلوبكم الجرأة فإنّها من أسباب الظفر ، وأكثروا من ذكر الضغائن ، فإنّها تبعث على الإقدام ، وألزموا الطاعة فإنّها حصن المحارب
.
وفجّر الثورة هناك ، وكان يبذر الشقاق بين جنود الأمويين ليحصل الانقسام بينهم وقد استفاد بذلك ونجح في مهمّته ، وقد انجفل الناس من هرات والطالقان ومرو وبلخ وتوافروا جميعاً مسودين الثياب وأنصاف الخشب التي كانت معهم
.
وباشر أبو مسلم إبادة الأبرياء فقتل ـ فيما ينقل المؤرّخون ـ ستمائة ألف عربي بالسيف صبراً عدا مَن قتل في الحرب
.
وتقدّمت جيوش أبي مسلم ـ بعد أن هزمت ولاة الأمويين في خراسان ـ نحو العراق وهي كالموج تخفق عليها الرايات السود فاحتلّت العراق بدون مقاومة تُذكر وبهذا أُعلن الحكم العباسي على يد أبي مسلم الخراساني في الكوفة سنة ( ١٣٢ هـ ) .
والجدير بالذكر أنّه قبل أن يدخل أبو مسلم الخراساني الكوفة حدث هناك أمران ينبغي الالتفات إليهما :
ـــــــــــــــــ
الأمر الأول :
في سنة ( ١٣١ هـ ) بعد إعلان أبي مسلم الخراساني الثورة في خراسان ، وقبل دخوله الكوفة أُلقي القبض على إبراهيم الإمام ـ الرأس المدبّر للثورة ـ من قِبل الخليفة الأموي مروان وحبسه في حرّان ثم قتله بعد ذلك في نفس التاريخ ؛ وبهذا الحدث تعرّضت الحركة العباسية لانتكاسة كبرى .
الأمر الثاني :
خاف أبو العباس السفّاح وأبو جعفر المنصور وجماعة فهربوا إلى الكوفة لوجود قاعدة من الدعاة العباسيين فيها وعلى رأسهم أبو سلمة الخلاّل الذي كان يضاهي أبا مسلم في الدهاء والنشاط وكان يُعرف بوزير آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم
فأخلى لهم داراً وتولّى خدمتهم بنفسه وتكتّم على أمرهم .
ولعلّ أبا سلمة الخلاّل كان يريد من خلال هذا الإجراء صرف الخلافة لآل علي ولكنّه غلب على أمره حتى فاجأته جيوش أبي مسلم الخراساني إلى الكوفة وظهر أمر بني العباس فأخرجوا السفّاح إلى المسجد وبايعوه يوم الجمعة ١٢ ربيع الأول سنة ( ١٣٢ هـ ) .
واستقبلت الكوفة بيعة السفّاح بكثير من القلق ؛ لأنّها كانت تترقّب بفارغ الصبر حكومة العلويين حسب الشعارات المرفوعة ليبسطوا الأمن والرخاء .
أمّا الأوساط الواعية في الكوفة ، بل في كل أنحاء العالم الإسلامي ، فقد شجبت البيعة للسفّاح وأفتى الفقهاء في يثرب بعدم شرعيّتها
.
وبعد ذلك أخذوا به إلى المسجد لغرض الصلاة والخطبة لكنّه
ـــــــــــــــــ
حُصِر وخطب مكانه عمّه داود ثمّ امتلك الجرأة فخطب وكان من جملة ما قاله في خطابه :
يا أهل الكوفة أنتم محل محبّتنا ، ومنزل مودّتنا ، أنتم الذين لم تتغيّروا عن ذلك ، ولم يثنكم عنه تحامل أهل الجور عليكم ، حتى أدركتم زماننا ، وأتاكم الله بدولتنا ، فأنتم أسعد الناس بنا ، وأكرمهم علينا ، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم ، فأنا السفّاح المبيح ، والثائر المنيح
.
ثمّ أرسل قوّاته بقيادة عبد الله بن علي لقتال مروان بن محمد بن مروان الحمار ولاحقته الجيوش العباسية من بلدة إلى أخرى حتى حاصرته في مصر في قرية يقال لها ( بوصير ) وقُتل هناك شرّ قتلة
.