ثم تقلّد الحكم الأُموي عمر بن عبد العزيز بعهد من سليمان بن عبد الملك في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة (٩٩ هـ )
ولمس الناس في عهده القصير الأمن، والرفاه، بشكل نسبي، فقد أزال عنهم شيئاً من جور بني مروان وطغيانهم، وكان محنكاً، قد هذبته التجارب، وقد ساس المسلمين سياسة لم يألفوها ممّن قبله.
وكانت لعمر بن عبد العزيز إنجازات عديدة ميّزته عن سائر الحكّام الأمويين ويمكن تلخيصها فيما يلي:
ــــــــــــــ
١ ـ إدانة سب الإمام علي عليه السلام
ولعنه: كانت الحكومة الأُموية منذ تأسيسها قد تبنت بصورة جادّة سب الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
وانتقاصه، فان معاوية كان يرى ان هذا السبّ هو السبب في بقاء دولتهم وسلطانهم
، لأن مبادئ الإمام عليه السلام
كانت تطاردهم وتفتح أبواب النضال الشعبي ضد سياستهم القائمة على الظلم والجور والطغيان فكان لابدّ من إسقاط شخصيّته، واعتباره.
وقد أدرك عمر بن عبد العزيز أن السياسة التي انتهجها آباؤه ضد الإمام عليه السلام
لم تكن حكيمة ولا رشيدة، فقد جرّت للأمويين الكثير من المصاعب والمشاكل، وألقتهم في شر عظيم، فعزم على أن يمحو هذه الخطيئة، فأصدر أوامره الحاسمة إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي بترك سبّ عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام
وأن يُقرأ عوض السب قوله تعالى:(
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى
)
.
وقد علّل عمر نفسه السبب في تركه لما سنّه آباؤه من انتقاص الإمام بقوله: كان أبي إذا خطب فنال من علي تلجلج، فقلت: يا أبت إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيراً، قال: أوفطنت لذلك؟ قلت: نعم، فقال: يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من عليٍّ ما نعلم تفرّقوا عنّا إلى أولاده.
فلما ولي عمر الخلافة لم يكن عنده من الرغبة في الدنيا مثل إبطال ظاهرة سب الإمام
.
وقد أثارت هذه المكرمة إعجاب الجميع، وأخذ الناس يتحدثون عنه بأطيب الحديث ويذكرون شجاعته النادرة في مخالفته لسلفه الطغاة البغاة.
ــــــــــــــ
٢ ـ صلته للعلويين: جهدت الحكومة الأُموية منذ تأسيسها على حرمان أهل البيت عليهم السلام
من حقوقهم وإشاعة الفاقة في بيوتهم، حتى عانوا الفقر والحرمان، ولكن لما ولي الحكم عمر بن عبد العزيز أجزل لهم العطاء فقد كتب إلى عامله على يثرب أن يقسم فيهم عشرة آلاف دينار، فأجابه عامله: إن علياً قد ولد له في عدة قبائل من قريش، ففي أي ولده ؟ فكتب إليه: إذا أتاك كتابي هذا، فاقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار، فطالما تخطّتهم حقوقه)
. وكانت هذه أول صلة تصلهم أيام الحكم الأُموي.
٣ ـ رد فدك: رد عمر فدكاً إلى العلويين بعد أن صودرت منهم، وأخذت تتعاقب عليها الأيدي، وتتناهب الرجال وارداتها، وآل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
قد حرموا منها، وقد روي ردّه لها بصور متعددة منها:
ألف: إن عمر بن عبد العزيز زار مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
وأمر مناديه أن ينادي: من كانت له مظلمة أو ظلامة فليحضر.
فقصده الإمام أبو جعفر عليه السلام
فقام إليه عمر تكريماً واحتفى به فقال الإمام عليه السلام
له:(إنما الدنيا سوق من الأسواق يبتاع فيها الناس ما ينفعهم وما يضرهم، وكم قوم ابتاعوا ما ضرّهم، فلم يصبحوا حتى أتاهم الموت فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا ما ينفعهم في الآخرة، فقسم ما جمعوا لمن لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم، فنحن والله حقيقون أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوف عليهم منها، فنكف عنها، واتق الله، واجعل في نفسك اثنتين، انظر إلى ما تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربك فقدمه بين يديك، وانظر إلى ما تكره معك إذا قدمت على ربك فارمه وراءك، ولا ترغبن في سلعة
ــــــــــــــ
بارت على من كان قبلك، فترجو أن يجوز عنك، وافتح الأبواب، وسهل الحجاب، وأنصف المظلوم، ورد الظالم، ثلاثة من كن فيه استكمل الإيمان بالله من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق، ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له...)
.
ولما سمع عمر كلام الإمام عليه السلام
أمر بدواة وبياض، وكتب بعد البسملة: (هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بفدك).
ب ـ إنه لما ولي الخلافة أحضر قريشاً ووجوه الناس، فقال لهم: إن فدكاً كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
، فكان يضعها حيث أراه الله، ثم وليها أبو بكر كذلك، ثم عمر كذلك، ثم أقطعها مروان
ثم إنها صارت إلي، ولم تكن من مالي أعود علي، وإني أشهدكم أني قد رددتها على ما كانت عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
.
وليس في هذه الرواية أنه ردها إلى العلويين، وإنما وضعها حيث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
يضعها ومن المعلوم أن رسول الله أقطعها إلى بضعته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراءعليهاالسلام
وتصرفت بها في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ولكن القوم رغبوا في مصادرتها لمصالح سياسية دعتهم إلى ذلك.
ج ـ إن عمر بن عبد العزيز لما أعلن رد فدك إلى العلويين نقم عليه بنو أُمية فقالوا له: نقمت على الشيخين ـ يعني أبا بكر وعمر ـ فعلهما وطعنت عليهما، ونسبتهما إلى الظلم، فقال: قد صح عندي وعندكم أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ادعت فدكاً، وكانت في يدها، وما كانت لتكذب على
ــــــــــــــ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
مع شهادة علي، وأم أيمن وأم سلمة، وفاطمة عندي صادقة فيما تدعي، وإن لم تقم البيّنة وهي سيدة نساء الجنة، فأنا اليوم أردها على ورثتها أتقرب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
وأرجو أن تكون فاطمة والحسن والحسين يشفعون لي يوم القيامة، ولو كنت بدل أبي بكر وادعت فاطمةعليهاالسلام
كنت أصدقها على دعوتها، ثم سلمها إلى الإمام الباقر عليه السلام
.