قام الإمام أبو جعفر عليه السلام
بأسمى خدمة للعالم الإسلامي، فقد حرّر النقد من التبعية للإمبراطورية الرومية، حيث كان النقد يصنع هناك ويحمل شعار الروم النّصارى، وقد جعله الإمام عليه السلام
مستقلاً بنفسه يحمل الشعار الإسلامي، وقطع الصلة بينه وبين الروم.
أما السبب في ذلك فهو أن عبد الملك بن مروان نظر إلى قرطاس قد طرز بمصر فأمر بترجمته إلى العربية، فترجم له، وقد كتب عليه الشعار المسيحي الأب والابن والروح فأنكر ذلك، وكتب إلى عامله على مصر عبد العزيز بن مروان بإبطال ذلك وأن يحمل المطرزين للثياب والقراطيس وغيرها على أن يطرزوها بشعار التوحيد، ويكتبوا عليها (شهد الله أنه لا إله إلاّ هو) وكتب إلى عمّاله في جميع الآفاق بإبطال ما في أعمالهم من القراطيس المطرزة بطراز الروم، ومعاقبة من وجد عنده شيء بعد هذا النهي.
وقام المطرزون بكتابة ذلك، فانتشرت في الآفاق، وحملت إلى الروم ولما علم ملك الروم بذلك انتفخت أوداجه، واستشاط غيظاً وغضباً فكتب إلى عبد الملك أن عمل القراطيس بمصر، وسائر ما يطرز إنما يطرز بطراز الروم إلى أن أبطلته، فان كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا، فاختر من هاتين الحالتين أيهما شئت وأحببت، وقد بعثت إليك بهدية تشبه محلك، وأحببت أن تجعل رد ذلك الطراز إلى ما كان عليه في جميع ما كان يطرز من أصناف الأعلاق حالة أشكرك عليها وتأمر بقبضة الهدية.
ــــــــــــــ
ولما قرأ عبد الملك الرسالة أعلم الرسول أنه لا جواب له عنده كما رد الهدية، وقفل الرسول راجعاً إلى ملك الروم فأخبره الخبر، فضاعف الهدية وكتب إليه ثانياً يطلب بإعادة ما نسخه من الشعار، ولما انتهى الرسول إلى عبد الملك ردّه، مع هديته، وظل مصمماً على فكرته، فمضى الرسول إلى ملك الروم وعرفه بالأمر، فكتب إلى عبد الملك يتهدده ويتوعده وقد جاء في رسالته:
(إنك قد استخففت بجوابي وهديتي، ولم تسعفني بحاجتي فتوهمتك استقللت الهدية فأضعفتها، فجريت على سبيلك الأول وقد أضعفتها ثالثة وأنا أحلف بالمسيح لتأمرن برد الطراز إلى ما كان عليه أو لآمرن بنقش الدنانير والدراهم، فانك تعلم أنه لا ينقش شيء منها إلاّ ما ينقش في بلادي، ولم تكن الدراهم والدنانير نقشت في الإسلام، فينقش عليها شتم نبيّك، فإذا قرأته إرفضّ جبينك عرقاً، فأحب أن تقبل هديتي، وترد الطراز إلى ما كان عليه، ويكون فعل ذلك هدية تودني بها، وتبقى الحال بيني وبينك...).
ولما قرأ عبد الملك كتابه ضاقت عليه الأرض، وحار كيف يصنع، وراح يقول: أحسبني أشأم مولود في الإسلام، لأني جنيت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
من شتم هذا الكافر، وسيبقى عليَّ هذا العار إلى آخر الدنيا فان النقد الذي توعدني به ملك الروم إذا طبع سوف يتناول في جميع أنحاء العالم.
وجمع عبد الملك الناس، وعرض عليهم الأمر فلم يجد عند أحد رأياً حاسماً، وأشار عليه روح بن زنباع، فقال له: إنّك لتعلم المخرج من هذا الأمر، ولكنك تتعمد تركه، فأنكر عليه عبد الملك وقال له: ويحك! من ؟. فقال له: عليك بالباقر من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم
.
فأذعن عبد الملك، وصدقه على رأيه، وعرفه أنه غاب عليه الأمر، وكتب من فوره إلى عامله على يثرب يأمره بإشخاص الإمام وأن يقوم برعايته والاحتفاء به، وأن يجهزه بمائة ألف درهم، وثلاثمائة ألف درهم لنفقته، ولما انتهى الكتاب إلى العامل قام بما عهد إليه، وخرج الإمام من يثرب إلى دمشق فلما سار إليها استقبله عبد الملك، واحتفى به وعرض عليه الأمر فقال عليه السلام
:
(لا يعظم هذا عليك فإنه ليس بشيء من جهتين: إحداهما أن الله عَزَّ وجَلَّ لم يكن ليطلق ما تهدد به صاحب الروم في رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
والأخرى وجود الحيلة فيه)
.
فقال: ما هي ؟
قال عليه السلام
:تدعو في هذه الساعة بصناع فيضربون بين يديك سككاً للدراهم والدنانير، وتجعل النقش صورة التوحيد وذكر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
احدهما في وجه الدرهم، والآخر في الوجه الثاني، وتجعل في مدار الدرهم والدينار ذكر البلد الذي يضرب فيه والسنّة التي يضرب فيها، وتعمد إلى وزن ثلاثين درهماً عدداً من الأصناف الثلاثة إلى العشرة منها وزن عشرة مثاقيل، وعشرة منها وزن ستة مثاقيل، وعشرة منها وزن خمسة مثاقيل، فتكون أوزانها جميعاً واحداً وعشرين مثقالاً، فتجزئها من الثلاثين فيصير العدة من الجميع وزن سبعة مثاقيل، وتصب صنجات من قوارير لا تستحيل إلى زيادة ولا نقصان، فتضرب الدراهم على وزن عشرة، والدنانير على وزن سبعة مثاقيل ...
وأمره بضرب السكة على هذا اللون في جميع مناطق العالم الإسلامي، وأن يكون التعامل بها، وتلغى السكة الأولى، ويعاقب بأشد العقوبة من يتعامل بها، وترجع إلى المعامل الإسلامية لتصب ثانياً على الوجه الإسلامي.
وامتثل عبد الملك ذلك، فضرب السكة حسبما رآه الإمام عليه السلام
ولما فهم ملك الروم ذلك سقط ما في يده، وخاب سعيه، وظل التعامل بالسكة التي صممها الإمام عليه السلام
حتى في زمان العباسيين
.
وذكر ابن كثير أن الذي قام بهذه العملية الإمام زين العابدين عليه السلام
. ولا مانع من أن يكون الإمام زين العابدين قد نفّذ الخطة بواسطة ابنه محمد الباقر عليه السلام
.
وعلى أي حال فان العالم الإسلامي مدين للإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام
بما أسداه إليه من الفضل بإنقاذ نقده من تبعية الروم المسيحيين.
ومرض عبد الملك بن مروان مرضه الذي هلك فيه، وعهد بالخلافة من بعده إلى ولده الوليد، وأوصاه بالحَجاج خيراً، وقال له: وانظر الحَجّاج فأكرمه، فإنه هو الذي وطّأ لكم المنابر، وهو سيفك يا وليد، ويدك على من ناواك، فلا تسمعن فيه قول أحد، وأنت إليه أحوج منه إليك. وادع الناس إذا مت إلى البيعة، فمن قال برأسه هكذا، فقل: بسيفك هكذا...)
.
ومثّلت هذه الوصية اندفاعاته نحو الشرّ حتى في الساعة الأخيرة من حياته. وقد سئل عنه الحسن البصري فقال: ما أقول في رجل كان الحجاج سيئة من سيئاته
.
ــــــــــــــ