١ ـ وضوؤه :
الوضوء هو نور وطهارة من الذنوب، والمقدمة الأولى للصلاة، وكان الإمام
عليه السلام
دوماً على طهارة، وقد تحدّث الرواة عن خشوعه لله في وضوئه، فقالوا: إنّه إذا أراد الوضوء اصفرّ لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيجيبهم قائلاً:
(أتدرون بين يدي مَن أقوم؟!)
.
٢ ـ صلاته :
أمّا الصلاة فمعراج المؤمن وقربان كلّ تقيّ كما في الحديث الشريف ، وكانت الصلاة من أهم الرغبات النفسية للإمام
عليه السلام
فقد اتّخذها معراجاً ترفعه إلى الله تعالى، وكانت تأخذه رعدة إذا أراد الشروع في الصلاة، فقيل له في ذلك فقال:
(أتدرون بين يدي من أقوم، ومن أناجي؟!)
. ونعرض لبعض شؤونه في حال صلاته.
أ ـ تطيّبه للصلاة:
وكان الإمام إذا أراد الصلاة تطيّب من قارورة كان قد جعلها في مسجد صلاته
.
ــــــــــــــ
(١) نهاية الإرب : ٢١ / ٣٢٦، سير أعلام النبلاء : ٤ / ٢٣٨.
(٢) الخصال : ٢ / ٦٢٠ .
(٣) بحار الأنوار : ٤٦ / ٥٨.
ب ـ لباسه في صلاته:
وكان الإمام
عليه السلام
إذا أراد الصلاة لبس الصوف وأغلظ الثياب
، مبالغة منه في إذلال نفسه أمام الخالق العظيم.
ج ـ خشوعه في صلاته :
كانت صلاته تمثّل الانقطاع التامّ إلى الله جلّ جلاله والتجرّد من عالم المادّيات، فكان لا يحسّ بشيء من حوله، بل لا يحسّ بنفسه فيما تعلّق قلبه بالله تعالى، ووصفه الرواة في حال صلاته، فقالوا: كان إذا قام إلى الصلاة غشي لونه بلون آخر، وكانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله، وكان يقف في صلاته موقف العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، وكان يصلّي صلاة مودِّع يرى أنّه لا يصلّي بعدها أبد
.
وتحدّث الإمام الباقر عليه السلام
عن خشوع أبيه في صلاته فقال:(كان عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة كأنّه ساق شجرة لا يتحرك منه شيء إلاّ ما حركت الريح منه)
.
ونقل أبان بن تغلب إلى الإمام الصادق عليه السلام
صلاة جدّه الإمام السجاد عليه السلام
فقال له: إنّي رأيت عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة غشي لونه بلون آخر، فقال له الإمام الصادق عليه السلام
:(والله إنّ عليّ بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه...)
.
وكان من مظاهر خشوعه في صلاته أنّه إذا سجد لا يرفع رأسه حتى
ــــــــــــــ
(١) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٠٨.
(٢) حياة الإمام زين العابدين
: ١٩٠.
(٣) وسائل الشيعة : ٤ / ٦٨٥.
(٤) المصدر السابق.
يرفض عرق
أو كأنّه غمس في الماء من كثرة دموعه وبكائه
، ونقل عن أبي حمزة الثمالي أنّه رأى الإمام قد صلّى فسقط الرداء عن أحد منكبيه فلم يسوّه فسأله أبو حمزة عن ذلك فقال له:
(ويحك، أتدري بين يدي مَنْ كنتُ؟ إنّ العبد لا يقبل من صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه)
.
د ـ صلاة ألف ركعة :
وأجمع المترجمون للإمام
عليه السلام
أنّه كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة
، وأنّه كانت له خمسمائة نخلة، فكان يصلّي عند كلّ نخلة ركعتين
ونظراً لكثرة صلاته; فقد كانت له ثفنات في مواضع سجوده كثفنات البعير، وكان يسقط منها في كلّ سنة، فكان يجمعها في كيس، ولمّا توفّي
عليه السلام
دفنت معه
.
هـ ـ كثرة سجوده :
إنّ أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو في حال سجوده كما في الحديث الشريف، وكان الإمام عليه السلام
كثير السجود لله تعالى خضوعاً وتذلّلاً له، وروي: أنّه خرج مرّةً إلى الصحراء فتبعه مولىً له فوجده ساجداً على حجارة خشنة، فأحصى عليه ألف مرّة يقول:(لا إله إلاّ الله حقّاً حقّاً، لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقّاً، لا إله إلاّ الله إيماناً وصدقاً)
.
ــــــــــــــ
(١) تهذيب الأحكام : ٢ / ٢٨٦ ح١١٤٦.
(٢) بحار الأنوار : ٤٦ / ١٠٨.
(٣) علل الشرائع: ٨٨ ، بحار الأنوار : ٤٦ / ٦١.
(٤) تهذيب التهذيب : ٧ / ٣٠٦، نور الأبصار : ١٣٦، الإتحاف بحب الأشراف : ٤٩، ومصادر أُخرى.
(٥) بحار الأنوار : ٤٦ / ٦١، الخصال : ٤٨٧.
(٦) الخصال: ٤٨٨.
(٧) وسائل الشيعة : ٤ / ٩٨١.
وكان يسجد سجدة الشكر، ويقول فيها مئة مرّة:
(الحمد لله شكراً)
، ثمّ يقول:
(يا ذا المنّ الذي لا ينقطع أبداً، ولا يحصيه غيره عدداً، ويا ذا الجود الذي لا ينفد أبداً، يا كريم، يا كريم)
ويتضرّع بعد ذلك ويذكر حاجته
.
و ـ كثرة تسبيحه :
وكان دوماً مشغولاً بذكر الله تعالى وتسبيحه وحمده، وكان يسبّح الله بهذه الكلمات:
(سبحان من أشرق نوره كلّ ظلمة، سبحان من قدّر بقوته كلّ قدرة، سبحان من احتجب عن العباد بطرائق نفوسهم فلا شيء يحجبه، سبحان الله وبحمده)
.
ز ـ ملازمته لصلاة الليل:
من النوافل التي كان لا يَدَعُها الإمام
عليه السلام
صلاة الليل، فكان مواظباً عليها في السفر والحضر
إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.
ح ـ دعاؤه بعد صلاة الليل :
وكان
عليه السلام
إذا فرغ من صلاة الليل دعا بهذا الدعاء الشريف، وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت
عليهم السلام
، وإليك بعض مقاطعه:
(اللهمّ يا ذا الملك المتأبد بالخلود والسلطان، الممتنع بغير جنود ولا أعوان، والعزّ الباقي على مرّ الدهور وخوالي
الأعوام
ومواضي الأزمان والأيام، عزّ سلطانك عزاً لا حدّ له بأوّلية ولا منتهى له بآخرية، واستعلى ملكك علوّاً سقطت الأشياء دون بلوغ أمده
ولا
ــــــــــــــ
(١) وسائل الشيعة : ٤ / ١٠٧٩.
(٢) دعوات القطب الراوندي: ٣٤.
(٣) عن صفة الصفوة : ٢ / ٥٣ وكشف الغمة : ٢ / ٢٦٣.
(٤) خوالي الأعوام: مواضيها.
(٥) أمده: غايته.
يبلغ أدنى ما استأثرت من ذلك أقصى نَعت الناعتين، ضلّت فيك الصفات وتفسّخت
دونك النعوت، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام، كذلك أنت الله الأوّل في أوّليّتك، وعلى ذلك أنت دائمٌ لا تزول، وأنا العبد الضعيف عملاً الجسيم أملاً، خرجت من يدي أسباب الوصلات
إلاّ ما وصله رحمتك، وتقطّعت عنّي عصم
الآمال إلاّ ما أنا معتصم به من عفوك، قلّ عندي ما أعتد به من طاعتك، وكثر عليّ ما أبوء
به من معصيتك، ولن يضيق عليك عفوٌ عن عبدك، وإن أساء فاعف عنّي...)
.
(اللهمّ إنّي أعوذ بك من نار تغلّظت بها على مَن عصاك، وتوعّدت بها على من صدف
عن رضاك، ومن نار نورها ظلمة، وهيّنها أليم، وبعيدها قريب، ومن نار يأكل بعضها بعضٌ، ويصول
بعضُها على بعض، ومن نار تذر
العظام رميما
، وتسقي أهلها حميماً
، ومن نار لا تبقي على مَن تضرّع إليها، ولا ترحم من استعطفها، ولا تقدر على التخفيف عمّن خشع لها واستسلم إليها، تلق سكانها بأحرّ ما لديها من أليم النكال
وشديد الوبال
...)
.
ــــــــــــــ
وذبل الإمام عليه السلام
من كثرة العبادة وأجهدته أيّ إجهاد، وقد بلغ به الضعف أنّ الريح كانت تميله يميناً وشمالاً بمنزلة السنبلة
التي تميلها الريح.
وقال ابنه عبد الله: كان أبي يصلّي بالليل فإذا فرغ يزحف إلى فراشه
.
وأشفق عليه أهله ومحبّوه من كثرة ما بان عليه من الضعف والجهد من كثرة عبادته، فكلّموه في ذلك لكنّه عليه السلام
أصرّ على شدّة تعبّده حتى يلحق بآبائه، قال له أحد أبنائه: يا أبت كم هذا الدؤوب (يعني الصلاة)؟ فأجابه الإمام عليه السلام
:(أتَحَبّبُ إلى ربّي)
.
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري للإمام عليه السلام
: ياابن رسول الله! أما علمت أنّ الله تعالى إنّما خلق الجنّة لكم ولمن أحبّكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم، فما هذا الجهد الذي كلّفته نفسك؟ فأجابه الإمام عليه السلام
:(يا صاحب رسول الله، أما علمت أنّ جدي رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، فلم يَدَع الإجتهاد له، وتعبّد ـ بأبي وأمي ـ حتى انتفخ ساقه وورم قدمه، وقد قيل له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال
صلى الله عليه وآله وسلم
: أفلا أكون عبداً شكوراً؟)
.
فقال له جابر: ياابن رسول الله، البُقْيا على نفسك، فإنّك من أسرة بهم يستدفع البلاء، وبهم يستكشف الأدواء، وبهم تُستمطر السماء...) فأجابه الإمام عليه السلام
:(لا أزال على منهاج أَبَوَيَّ متأسِّياً بهما حتى ألقاهما...)
.
ــــــــــــــ
٣ ـ صومه :
وقضى الإمام معظم أيام حياته صائماً، وقد قالت جاريته حينما سئلت عن عبادته: (ما قدّمتُ له طعاماً في نهار قطّ) وقد أحبَّ الصومَ وحثَّ عليه إذ قال عليه السلام
:(إنّ الله تعالى وكّل ملائكة بالصائمين)
، وكان عليه السلام
لا يفطر إلاّ في يوم العيدين وغيرهما ممّا كان له عذر.
وكان له شأن خاص في شهر رمضان، أنّه لم يترك نوعاً من أنواع البِرّ والخير إلاّ أتى به، وكان لا يتكلم إلاّ بالتسبيح والاستغفار والتكبير، وإذا أفطر قال:(اللّهم إن شئت أن تفعل فعلت)
.
وكان عليه السلام
يستقبل شهر رمضان بشوق ورغبة لأنه ربيع الأبرار، وكان يدعو لدى دخول شهر الله تعالى بدعاء نقتطف منه بعض الفقرات، قال عليه السلام
:(الحمد لله الذي هدانا لحمده وجعلنا من أهله ; لنكون لإحسانه من الشاكرين، وليجزينا على ذلك جزاء المحسنين. والحمد لله الذي حبانا بدينه، واختصّنا بملّته، وسَبَّلَنا
في سُبُلِ إحسانه، لنسلكها بمنّه إلى رضوانه... والحمد لله الذي جعل من تلك السبل شهره شهر رمضان شهر الصيام وشهر الإسلام وشهر الطهور وشهر التمحيص وشهر القيام... اللّهم صلّ على محمد وآله، وألهمنا معرفة فضله، وإجلال حرمته، والتحفّظ ممّا حظرت فيه، وأعِنّا على صيامه بكفّ الجوارح عن معاصيك، واستعمالها فيه بما يرضيك، حتى لا نُصغي بأسماعنا إلى لغو، ولا نسرع بأبصارنا إلى لهو، وحتى لا نبسط أيدينا إلى محظور، ولا نخطو بأقدامنا إلى محجور، وحتى لا تعي بطوننا إلاّ ما أحلَلْت، ولا تنطق ألسنتنا
ــــــــــــــ
(١) دعوات الرواندي: ٤.
(٢) فروع الكافي : ٤ / ٨٨ .
(٣) سبّلنا: أدخلنا.
إلاّ بما مثّلت، ولا نتكلّف إلاّ ما يدني من ثوابك، ولا نتعاطى إلاّ الذي يقي من عقابك، ثم خلّص ذلك كلّه من رئاء المرائين وسُمعة المسمعين، لا نُشرك فيه أحداً دونك، ولا نبتغي فيه مراداً سواك اللهمّ اشحنه
بعبادتنا إيّاك، وزيّن أوقاتنا بطاعتنا لك، وأعنّا في نهاره على صيامه، وفي ليله على الصلاة والتضرع إليك والخشوع لك والذلّة بين يديك حتى لا يشهد نهاره علينا بغفلة ولا ليله بتفريط اللهمّ واجعلنا في سائر الشهور والأيام كذلك ما عمّرتنا...)
.
وكان الإمام زين العابدين عليه السلام
في كلّ يوم من أيام شهر رمضان يأمر بذبح شاة وطبخها... فإذا نضجت يقول:(هاتوا القصاع)
ويأمر بأن يُفرَّق على الفقراء والأرامل والأيتام حتى يأتي على آخر القدور ولا يبقي شيئاً لإفطاره، وكان يفطر على خبز وتمر
.
ومن مَبَرّات الإمام عليه السلام
في شهر رمضان المبارك كثرة عتقه وتحرير أرقّائه من رقّ العبودية، على أنهم كانوا يعيشون في ظلاله محترمين، فكان يعاملهم كأبنائه، وكان
عليه السلام
لا يعاقب أمةً ولا عبداً إذا اقترفا ذنباً، وإنّما كان يسجّل اليوم الذي أذنبوا فيه، فإذا كان آخر شهر رمضان جمعهم وأظهر الكتاب الذي سجّل فيه ذنوبهم، ويقول:
(ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا عليّ بن الحسين! إنّ ربّك قد أحصى عليك كلّ ما عملتَ، كما أحصيت علينا ما عملناه، ولديه كتاب ينطق بالحقّ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيت إلاّ أحصاها، وتجد كلّ ما عملت لديه حاضراً، كما وجدنا كلّ ما عملنا لديك حاضراً،
ــــــــــــــ
فاعف واصفح، كما ترجو من المليك العفو، وكما تحبّ أن يعفو المليك عنك، فاعف عنّا تجده عَفُوّاً، وبك رحيماً ولك غفوراً، ولا يظلم ربّك أحداً... كما لديك كتاب ينطق بالحقّ علينا، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ممّا أتيناه إلاّ أحصاها، فاذكر يا عليّ بن الحسين ذلّ مقامك بين يدي ربّك الحَكَم العدل الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح، فإنّه يقول:
(
وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
)
.
وكان يلقّنهم بتلك الكلمات التي تمثّل انقطاعه التامّ إلى الله تعالى واعتصامه به، وهو واقف يبكي من خشيته تعالى ويقول: (ربِّ إنّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت فاعف عنّا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سُؤّالاً ومساكين، وقد أنَخْنا بفنائك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك فامنن بذلك علينا، ولا تخيّبنا فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، إلهي كَرُمتَ فأكرِمني، إذ كنت من سُؤّالك وجُدْتَ بالمعروف فأخلطني بأهل نوالك يا كريم...).
ثم يُقبِلُ عليهم بوجهه الشريف وقد تبلّل من دموع عينيه قائلاً لهم بعطف وحنان: (قد عفوت عنكم، فهل عفوتم عنّي؟ وممّا كان منّي من سوء ملكة، فإنّي مليك سوء لئيم ظالم، مملوك لمليك كريم جواد عادل محسن متفضّل...) وينبري العبيد قائلين له: قد عفونا عنك يا سيّدنا، فيقول لهم: (قولوا: اللهمّ اعف عن عليّ بن الحسين كما عفا عنّا، فاعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرق).
فيقولون ذلك، ويقول بعدهم: (اللهمّ آمين ربّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم، وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي) فإذا كان يوم عيد الفطر
ــــــــــــــ
أجازهم جائزة سنيّة تغنيهم عمّا في أيدي الناس
.
٤ ـ دعاؤه :
أ ـ دعاؤه في الأسحار :
وكان الإمام عليه السلام
يناجي ربّه ويدعوه بتضرّع وإخلاص في سحر كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان بالدعاء الجليل الذي عرف بدعاء أبي حمزة الثمالي; لأنّه هو الذي رواه عنه، وهو من غرر أدعية أهل البيت عليهم السلام
وهو يمثّل مدى إنابته وانقطاعه إلى الله تعالى كما أنّ فيه من المواعظ ما يوجب صرف النفس عن غرورها وشهواتها، كما يمتاز بجمال الأسلوب وروعة البيان وبلاغة العرض، وفيه من التذلّل والخشوع والخضوع أمام الله تعالى ما لا يمكن صدوره إلاّ عن إمام معصوم.
وقد احتلّ هذا الدعاء مكانة مهمّة في نفوس الأخيار والصلحاء من المسلمين، إذ واظبوا على الدعاء به، وممّا قاله الإمام عليه السلام
في دعائه:
(إلهي، لا تؤدّبني بعقوبتك، ولا تمكر بي في حيلتك، من أين لي الخير يا ربّ ولا يوجد إلاّ من عندك؟ ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلاّ بك؟ لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك، ولا الذي أساء واجترأ عليك ولم يرضك خرج عن قدرتك...
بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك، ولو لا أنت لم أدر ما أنت.
الحمد لله الذي أدعوه فيجيبني وإن كنتُ بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الذي أسأله فيعطيني وإن كنت بخيلاً حين يستقرضني...
أدعوك يا سيدي بلسان قد أخرسه ذنبه، ربّ أناجيك بقلب قد أوبقه جرمه، أدعوك يا ربّ راهباً راغباً راجياً خائفاً، إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعتُ، وإذا رأيت كرمك طمعت...
ــــــــــــــ
يا واسع المغفرة، يا باسط اليدين بالرحمة، فوعزّتك يا سيّدي لو نهرتني ما برحتُ
من بابك ولا كففت عن تملّقك
لما انتهى إليّ من المعرفة بجودك وكرمك ...
اللهمّ إنّي كلّما قلت قد تهيّأت وتعبّأت وقمت للصلاة بين يديك وناجيتك ألقيت عليّ نعاساً إذا أنا صلّيت وسلبتني مناجاتك إذا أنا ناجيت، ما لي كلّما قلتُ قد صلُحت سريرتي
وقرب من مجالس التوابين مجلسي عرضت لي بلية أزالت قدمي وحالت بيني وبين خدمتك. سيدي لعلّك عن بابك طردتني، وعن خدمتك نحيتني، أو لعلّك رأيتني مستخفّاً بحقّك فأقصيتني، أو لعلّك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني، أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني وبينهم خلّيتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني، أو لعلّك بجرمي وجريرتي كافيتني، أو لعلّك بقلّة حيائي منك جازيتني ...
إلهي، لو قرنتني بالأصفاد ومنعتني سيبك
من بين الأشهاد ودللت على فضايحي عيون العباد وأمرت بي إلى النار وحلت بيني وبين الأبرار; ما قطعتُ رجائي منك، وما صرفت تأميلي للعفو عنك، ولا خرج حبّك من قلبي ...
أرحم في هذه الدنيا غربتي، وعند الموت كربتي، وفي القبر وحدتي، وفي اللحد وحشتي، وإذا نُشرتُ للحساب بين يديك ذلّ موقفي، واغفر لي ما خفي على الآدميّين من عملي، وأدم لي ما به سترتني، وارحمني صريعاً على الفراش، تقلّبني أيدي أحبّتي، وتفَضَّل عليّ ممدوداً على المغتسل يقلّبُني صالح جيرتي، وتحنّنْ عليّ محمولاً قد تناول الأقرباء أطراف جنازتي، وجُد عليّ منقولاً قد نزلتُ بك وحيداً في حفرتي، وارحم في ذلك البيت
ــــــــــــــ
الجديد غربتي، حتى لا أستأنس بغيرك...)
.
وكان الإمام عليه السلام
يتأثّر إذا انطوت أيام شهر رمضان; لأنّه عيد أولياء الله تعالى، وكان يودّعه بدعاء جليل نقتطف منه ما يلي:
(السلام عليك يا شهر الله الأكبر ويا عيد أوليائه.
السلام عليك يا أكرم مصحوب من الأوقات، ويا خير شهر في الأيام والساعات.
السلام عليك من شهر قربت فيه الآمال، ونشرت فيه الأعمال.
السلام عليك من قرين جلّ قدره موجوداً، وأفْجع فقده مفقوداً، ومرجوٍّ آلم فراقه.
السلام عليك من أليف آنس مقبلاً فسرّ، وأوحش منقضياً فمضّ
.
السلام عليك من مجاور رقّت فيه القلوب، وقلّت فيه الذنوب.
السلام عليك من ناصر أعان على الشيطان.
السلام عليك وعلى ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
السلام عليك ما كان أحرصنا بالأمس عليك، وأشدّ شوقنا غداً إليك.
اللهمّ اسلخنا بانسلاخ هذا الشهر
من خطايانا، وأخرجنا بخروجه من سيئاتنا، واجعلنا من أسعد أهله به، وأجزلهم قسماً فيه، وأوفرهم حظّاً منه...)
.
٥ ـ حجّه عليه السلام
:
وكان يحثّ على الحج والعمرة بقوله:(حجّوا واعتمروا تصح أجسادكم، وتتّسع أرزاقكم، ويصلح إيمانكم، وتكفوا مؤونة الناس ومؤونة عيالكم)
.
ــــــــــــــ
(١) راجع : مفاتيح الجنان (الدعاء المعروف بدعاء أبي حمزة الثمالي).
وقال عليه السلام
:(الحاج مغفور له، وموجوب له الجنّة، ومستأنف به العمل، ومحفوظ في أهله وماله)
.
وقال عليه السلام
:(الساعي بين الصفا والمروة تشفع له الملائكة)
.
وكان عليه السلام
يدعو إلى تكريم الحجّاج إذا قدموا من بيت الله الحرام ويقول:(استبشروا بالحجّاج إذا قدموا وصافِحوهم، وعظّموهم تشاركوهم في الأجر قبل أن تخالطهم الذنوب)
.
وحجّ عليه السلام
غير مرّة ماشياً كما حج أبوه وعمّه الحسن عليهم السلام
، وحج على ناقته عشرين حجّة وكان يرفق بها كثيراً.
وقال إبراهيم بن عليّ: حججتُ مع عليّ بن الحسين فتلكّأتْ ناقته فأشار إليها بالقضيب، ثم ردّ يده، وقال:(آه من القصاص...)
.
وكان الإمام عليه السلام
إذا أراد السفر إلى بيت الله الحرام احتفّ به القرّاء والعلماء; لأنّهم كانوا يتزوّدون منه العلوم والمعارف والحكم والآداب، وقال سعيد بن المسيب: إنّ القرّاء كانوا لا يخرجون إلى مكّة حتى يخرج عليّ بن الحسين، فخرج وخرجنا معه ألف راكب
.
وإذا انتهى الإمام إلى إحدى المواقيت التي يحرم منها; يأخذ بعمل سنن الإحرام، وإذا أراد التلبية عند عقد الإحرام اصفرّ لونه واضطرب ولم يستطع أن يلبّي، فإذا قيل له: ما لك لا تلبّي؟ قال:(أخشى أن أقول: لبيك،
ــــــــــــــ
فيقال لي: لا لبيك)
.
وإذا لبّى غشي عليه من كثرة خوفه من الله تعالى، ويسقط من راحلته، ولا يزال يعتريه هذا الحال حتى يقضي حجّه
.
وكان الإمام عليه السلام
إذا أدّى مناسكه في البيت الحرام; أقبل على الصلاة تحت ميزاب الرحمة. ورآه طاووس اليماني في ذلك المكان قائماً وهو يدعو الله ويبكي من خشية الله، فلمّا فرغ من صلاته قال له طاووس: رأيتك على حالة من الخشوع ولك ثلاثة أمور، أرجو أن تؤمنك من الخوف، أحدها: أنّك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
، الثاني: شفاعة جدّك، الثالث: رحمة الله.
فأجابه الإمام عليه السلام
قائلاً:
(يا طاووس، أمّا أنّي ابن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
، فلا يؤمنني وقد سمعت الله تعالى يقول:
(
فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ
)
. وأمّا شفاعة جدّي، فلا تؤمنني; لأنّ الله تعالى يقول:
(
وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى
)
وأمّا رحمة الله فالله يقول:
(
إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
)
ولا أعلم أنّي محسن)
وقال طاووس: رأيت عليّ بن الحسين يطوف من العشاء إلى السحر ويتعبّد، فإذا لم يرَ أحداً رمق السماء بطرفه وقال:(إلهي، غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد
صلى الله عليه وآله وسلم
في عرصات القيامة)
ثم بكى وقال:(أما وعزّتك وجلالك ما أردتُ بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك
ــــــــــــــ
متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي، وأعانني على ذلك سترك المرخى به عليّ، فأنا الآن من عذابك من يستنقذني، وبحبل من اعتصم إن قطعت حبلك عنّي...)
. ثم خرّ إلى الأرض ساجداً، فدنوت منه ورفعت رأسه ووضعته في حجري، فوقعتْ قطرات من دموعي على خدّه الشريف فاستوى جالساً، وقال بصوت خافت:(من هذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟)
.
فأجابه طاووس بخضوع وإجلال: أنا طاووس ياابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جانون؟ أبوك الحسين بن عليّ وأمك فاطمة الزهراء وجدّك رسول الله.
فأجابه الإمام عليه السلام
:
(هيهات هيهات يا طاووس، دع عنك حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيّداً قرشياً، أما سمعت قوله تعالى:
(
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ
)
؟ والله لا ينفعك غداً إلاّ ما تقدّمه من عمل صالح)
.
دعاؤه في يوم عرفة :
وكان الإمام
عليه السلام
في عرفات يقوم بالصلاة والدعاء وتلاوة القرآن الكريم، وكان يدعو بدعاء جليل وهو من غرر أدعية أئمّة أهل البيت
عليهم السلام
، وفيما يلي بعض المقتطفات منه:
(الحمد لله ربّ العالمين، اللهمّ لك الحمد بديع السماوات والأرض
ذا الجلال والإكرام، ربّ الأرباب، وإله كلّ مألوه، وخالق كلّ مخلوق، ووارث كلّ شيء ليس كمثله
ــــــــــــــ
(١) مناقب آل أبي طالب : ٤ / ١٦٣، ١٦٤، وبحار الأنوار : ٤٦ / ٨١ .
(٢) بديع السماوات والأرض: مخترعها لا عن مثال سابق، أو أنّ السماوات والأرض بديعة، أي عديمة النظير.
شيء، ولا يعزب
عنه علم شيء، وهو بكلّ شيء محيط، وهو على كلّ شيء رقيب.
أنت الله لا اله إلاّ أنت الأحد المتوحّد الفرد، وأنت الله لا اله إلاّ أنت الكريم المتكرّم العظيم المتعظّم الكبير المتكبّر، وأنت الله لا اله إلاّ أنت العليّ المتعال الشديد المحال
.
أنت الذي قصرت الأوهام عن ذاتيتك، وعجزت الأفهام عن كيفيتك، ولم تدرك الأبصار موضع أينيّتك، أنت الذي لا تُحدّ فتكون محدوداً، ولم تمثل فتكون موجوداً، ولم تلد فتكون مولوداً.
لك الحمد حمداً يدوم بدوامك، ولك الحمد حمداً خالداً بنعمتك، ولك الحمد حمداً يوازي صنعك، ولك الحمد حمداً يزيد على رضاك، ولك الحمد حمداً مع حمد كلّ حامد.
ربّ صلّ على محمد وآله صلاةً زاكيةً لا تكون صلاةٌ أزكى منها، وصلّ عليه صلاةً ناميةً لا تكون صلاةٌ أنمى منها، وصلّ عليه صلاةً راضيةً لا تكون صلاةٌ فوقها... ربِّ صلِّ على أطائب أهل بيته الذين اخترتهم لأمرك، وجعلتهم خزنة علمك وحفظة دينك، وخلفاءَك في أرضك، وحججك على عبادك، وطهّرتهم من الرجس والدنس تطهيراً بإرادتك، وجعلتهم الوسيلة إليك والمسلك إلى جنّتك.
اللهمّ إنّك أيّدت دينك في كلّ أوان بإمام أقمته علماً لعبادك ومناراً في بلادك، بعد أن وَصَلْت حبله بحبلك، وجعلته الذريعة إلى رضوانك، وافترضت طاعته، وحذّرت معصيته، وأمرت بامتثال أوامره والانتهاء عند نهيه، وألاّ يتقدّمه متقدّم ولا يتأخّر عنه متأخّر، فهو عصمة اللائذين، وكهف المؤمنين، وعروة المتمسّكين، وبهاءُ العالمين.
وانزع من قلبي حبّ دنيا دنية تنهى عمّا عندك، وتصدّ عن ابتغاء الوسيلة إليك، وتذهل عن التقرّب منك، وزيّن لي التفرّد بمناجاتك بالليل والنهار، وهب لي عصمة تدنيني من خشيتك، وتقطعني عن ركوب محارمك، وتفكّني من أسر العظائم، وهب لي التطهير من
ــــــــــــــ
دنس العصيان، وأذْهِب عنّي درن الخطايا، وسربلني
بسربال عافيتك.
ولا تكلني إلى حولي وقوّتي دون حولك وقوّتك، ولا تخزني يوم تبعثني للقائك، ولا تفضحني بين يدي أوليائك، ولا تنسني ذكرك، ولا تُذهب عنّي شكرك... واجعل رغبتي إليك فوق رغبة الراغبين، وحمدي إيّاك فوق حمد الحامدين، ولا تخذلني عند فاقتي إليك.
اجعل هيبتي في وعيدك، وحذري من إعذارك وإنذارك، ورهبتي عند تلاوة آياتك، واعمر ليلي بإيقاظي فيه لعبادتك، وتفرّدي بالتهجّد لك، وتجرّدي بسكوني إليك وإنزال حوائجي بك ومنازلتي إيّاك
في فكاك رقبتي من نارك، وإجارتي ممّا فيه أهلها من عذابك، ولا تذرني في طغياني
عامهاً
ولا
في
غمرتي
ساهياً حتى حين، ولا تجعلني عظةً لمن اتّعظ، ولا نكالاً لمن اعتبر، ولا فتنةً لمن نظر، ولا تمكر بي فيمن تمكر به، ولا تستبدل بي غيري... واجعل قلبي واثقاً بما عندك، وهمّي مستغرقاً لما هو لك، واستعملني بما تستعمل به خالصتك، وأشرب قلبي عند ذهول العقول طاعتك... وصن وجهي عن الطلب إلى أحد من العالمين، وذبّني عن التماس ما عند الفاسقين ولا تجعلني للظالمين ظهيراً ولا لهم على محو كتابك يداً ونصيراً...)
.
دعاؤه يوم عيد الأضحى :
كان الإمام زين العابدين عليه السلام
يستقبل يوم عيد الأضحى بالابتهال إلى الله والتضرّع إليه، طالباً منه أن يتفضّل عليه بقبول مناسكه وسائر طاعاته
ــــــــــــــ
(١) سربلني: قمّصني، والسربال: القميص.
(٢) منازلتي ايّاك: أي مراجعتي.
(٣) عامهاً: العَمَه في البصيرة كالعمى في البصر.
(٤) ولا في غمرتي: أي إغمائي وغفلتي، ناظراً إلى قوله سبحانه: (فذرهم في غمرتهم حتّى حين). المؤمنون (٢٣) : ٥٤ .
(٥) الصحيفة الكاملة السجادية : الدعاء ٤٧.
وعباداته، وأن يمنحه المغفرة والرضوان، ومن دعائه في هذا اليوم المبارك:
(اللهمّ هذا يوم مبارك ميمون والمسلمون فيه مجتمعون.
اللهمّ إليك تعمّدت بحاجتي، وبك أنزلتُ اليوم فقري وفاقتي ومسكنتي، وإنّي بمغفرتك ورحمتك أوثق منّي بعملي، ولمغفرتك ورحمتك أوسع من ذنوبي، فصلّ على محمد وآل محمد، وتولّ قضاء كلّ حاجة هي لي بقدرتك عليها، وبتيسير ذلك عليك، وبفقري إليك، وغناك عنّي، فإنّي لم أُصِبْ خيراً قطُّ إلاّ منك، ولم يصرف عنّي سوءاً قط أحد غيرك، ولا أرجو لأمر آخرتي ودنياي سواك.
اللهمّ فصلّ على محمد وآل محمد، ولا تخيّب اليوم ذلك من رجائي، يا من لا يُحفيه سائل
) ولا ينقصه نائل، فإنّي لم آتك ثقةً منّي بعمل صالح قدّمته، ولا شفاعة مخلوق رجوته إلاّ شفاعة محمد وأهل بيته صلواتك عليه وعليهم وسلامك، أتيتك مقرّاً بالجرم والإساءة إلى نفسي، أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عفوت به عن الخاطئين ثمّ لم يمنعك طول
عكوفهم
على
عظيم الجرم أن عدت
عليهم
بالرحمة
والمغفرة.
اللهمّ
إنّ
هذا
المقام
لخلفائك
وأصفيائك ومواضع
أمنائك
في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد
ابتزوها
وأنت المقدّر لذلك، لا يغالب أمرك، ولا يُجاوز
ــــــــــــــ
المحتوم من تدبيرك، كيف شئت وأنّى شئت...)
.
ظاهرة الدعاء والمناجاة في حياة الإمام عليه السلام
:
قال تعالى:
(
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً
)
.
قال السيد ابن طاووس رضوان الله تعالى عليه في مقام بيان ما تفيده الآية المباركة: فلم يجعل لهم لولا الدعاء محلاًّ ولا مقاماً فقد صار مفهوم ذلك أنّ محل الإنسان ومنزلته عند الله جلّ جلاله على قدر دعائه وقيمته بقدر اهتمامه بمناجاته وندائه
.
وفي ضوء هذه الحقيقة القرآنية نجد أنّ الإمام زين العابدين عليه السلام
كان يدعو الله تعالى ويناجيه في كلّ آن وعلى كلّ حال، مجسّداً فقره المطلق إلى الله جلّ جلاله، وهو ما يستبطن قدر الإمام ومكانته باعتبار أنّ المقام عند الله تعالى على قدر دعائه ومناجاته أو على قدر إدراكه لفاقته وحاجته إلى الله عَزَّ وجَلَّ ، والعمل بما يقتضيه هذا الإدراك من انقطاع تامّ إلى الله تعالى والإعراض عن كلّ ما سواه.
ونقتطف هنا بعض النصوص الشريفة من أدعية ومناجات الإمام عليه السلام
التي تبيّن ذروة حالات اليقين والغنى التي يمكن أن يصلها الإنسان إذا رسّخ في عقله وقلبه حقيقة (أن لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله تعالى) فلا يتعلّق قلبه بغيره سبحانه، ولا يرجو شيئاً من سواه تعالى، ولا يحبّ شيئاً غيره ويعمر
ــــــــــــــ
(١) الفرقان (٢٥) : ٧٧.
(٢) فلاح السائل للسيد ابن طاووس : ٢٦، طبعة مكتب الإعلام الإسلامي للحوزة العلمية في قم المقدسة.
(٣) الدعاء: ٤٨ من الصحيفة الكاملة السجاديّة.
أوقاته كلّها بذكره تعالى والعمل بطاعته :
قال عليه السلام
:(اللهمّ صلّ على محمّد وآله، واجعل سلامة قلوبنا في ذكر عظمتك، وفراغ أبداننا في شكر نعمتك، وانطلاق ألسنتنا في وصف منّتك، اللهمّ صلّ على محمّد وآله، واجعلنا من دعاتك الداعين إليك، وهداتك الدالّين عليك، ومن خاصّتك الخاصّين لديك يا أرحم الرحمين)
.
إنّه الانقطاع التامّ والكامل فكراً وذكراً وسلوكاً وخُلقاً لله جلّ جلاله.
وقال عليه السلام
مناجياً الله جلّ جلاله:(كيف أرجو غيرك والخير كله بيدك؟! وكيف أُؤمِّل سواك والخلق والأمر لك؟! أأقطع رجائي منك وقد أوليتني ما لم أسأله من فضلك أم تفقرني إلى مثلي وأنا اعتصم بحبلك؟! يا من سعد برحمته القاصدون، ولم يشق بنقمته المستغفرون، كيف أنساك ولم تزل ذاكري؟! وكيف ألهو عنك وأنت مراقبي؟!)
.
لقد انقطع عليه السلام
إلى الله عَزَّ وجَلَّ كأعظم ما يكون الانقطاع، فلم يأمل في جميع أموره غيره معتقداً بأنّ الأمل بما في يد غيره سراب.
وناجى ربّه عَزَّ وجَلَّ بقوله عليه السلام
:
(إلهي أذهلني عن إقامة شكرك تتابع طولك
، وأعجزني عن إحصاء ثنائك فيض فضلك، وشغلني عن ذكر محامدك ترادف
عوائدك
، وأعياني عن نشر عوارفك توالي أياديك.
إلهي تصاغر عند تعاظم آلائك شكري، وتضاءل في جنب إكرامك إيّاي ثنائي
ونشري
.
ــــــــــــــ
جلّلتني
نعمك من أنوار الإيمان حللاً، وضربت عليّ لطائف برّك من العزّ كللاً
، وقلّدتني مننك قلائد لا تحلّ، وطوّقتني أطواقاً
لاتفلّ
، فآلاؤك جمّة ضعف لساني عن إحصائها، ونعماؤك كثيرة قصر فهمي عن إدراكها فضلاً عن استقصائها، فكيف لي بتحصيل الشكر وشكري إيّاك يفتقر إلى شكر؟! فكلّما قلت: لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول: لك الحمد...)
.
وهكذا يعلّمنا الإمام عليه السلام
كيف نشكر الله تعالى على ما أولانا من جزيل النعم، وأنّ الإنسان مهما بالغ في شكره فإنّه عاجز وقاصر عن أداء الشكر.
وقال عليه السلام
:(اللهمّ احملنا في سفن نجاتك، ومتّعنا بلذيذ مناجاتك، وأوردنا حياض حبّك، وأذقنا حلاوة ودّك وقربك، واجعل جهادنا فيك، وهمّنا في طاعتك، وأخلص نيّاتنا في معاملتك، فإنّا بك ولك ولا وسيلة لنا إليك إلاّ أنت...)
.
وهكذا طلب عليه السلام
من الله تعالى أن يخلص نيّته في معاملته ويبلغه أعزّ أمانيه وهي ابتغاء رضوانه جلّ جلاله.
وقال عليه السلام
:(... إلهي فَاسْلُك بنا سُبُلَ الوصول إليك، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك، قرّب علينا البعيد، وسهّل علينا العسير الشديد، وألحقنا بعبادك الذين هم بالبدار
إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإيّاك في الليل والنهار يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون، الذين صفّيت لهم المشارب، وبلّغتهم الرغائب، وأنجحت لهم
ــــــــــــــ
المطالب، وقضيت لهم من فضلك المآرب
، وملأت لهم ضمائرهم من حبّك، وروّيتهم من صافي شربك، فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا، ومنك أقصى مقاصدهم حصّلوا.
فأنت لا غيرك مرادي، ولك لا لسواك سهري وسهادي، ولقاؤك قرّة عيني، ووصلك مُنى نفسي، وإليك شوقي، وفي محبّتك
ولهي
، وإلى هواك صبابتي
، ورضاك بغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبي، وقربك غاية سؤلي، وفي مناجاتك رَوحي
وراحتي، وعندك دواء علّتي، وشفاء
غلّتي
، وبرد
لوعتي
،
وكشف
كربتي
...)
.
وهكذا انقطع عليه السلام
إلى الله جلّ جلاله، وتعلّقت به روحه وعواطفه، فلم يبصر غيره، ولا يجد شافياً لغلّتهِ سواه.
وقال عليه السلام
:(إلهي كسري لا يجبره إلاّ لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلاّ عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكِّنُها إلاّ أمانك، وذلّتي لا يعزّها إلاّ سلطانك، وأمنيتي لا يبلّغنيها إلاّ فضلك، وخلّتي
لا يسدّها إلاّ طولك، وحاجتي لا يقضيها غيرك، وكربي لا يفرّجه سوى رحمتك، وضرّي لا يكشفه غير رأفتك، وغلّتي لا يبرّدها إلاّ وصلك، ولوعتي لا يطفيها إلاّ لقاؤك، وشوقي إليك لا يُبله إلاّ النظر إلى وجهك، وقراري لا يقرّ دون دنوّي منك)
.
لقد أبدى الإمام عليه السلام
فقره وفاقته إلى الله سبحانه، وقد هام عليه السلام
بحبّ
ــــــــــــــ
سيّده ومولاه خالق الكون وواهب الحياة، فعقد جميع آماله عليه ورجاه في قضاء جميع أموره كأعظم ما يكون الرجاء.
تجلّيات العرفان الإلهي :
وقال عليه السلام
:(إلهي ما ألذّ خواطر الإلهام بذكرك على القلوب، وما أحلى المسير إليك بالأوهام في مسالك الغيوب، وما أطيب طعم حبّك، وما أعذب شرب قربك! فأعذنا من طردك وإبعادك، واجعلنا من أخصّ عارفيك وأصلح عبادك وأصدق طائعيك وأخلص عبّادك)
.
حقاً إنّ الإمام زين العابدين عليه السلام
سيّد الموحّدين وزعيم العارفين بالله، ولم تكن عبادته تقليداً، وإنّما كانت ناشئة عن كمال معرفته بالله تعالى، وقد أعرب في النص المذكور عن كمال بغيته ألا وهو الإخلاص في عبادته سبحانه وتعالى.
وقال عليه السلام
:
(إلهي فألهمنا ذكرك في
الخلاء
والملاء
والليل والنّهار والإعلان والإسرار، وفي السرّاء والضرّاء، وآنِسنا بالذكر الخفيّ، واستعملنا بالعمل الزكيّ والسعي المرضىّ.
أنت المُسبّح في كلّ مكان، والمعبود في كلّ زمان، والموجود في كلّ أوان، والمدعوّ بكلّ لسان، والمعظّم في كل
ّجنان
، وأستغفرك من كلّ لذّة بغير ذكرك، ومن كلّ راحة بغير اُنسك، ومن كلّ سرور بغير قربك، ومن كلّ شغل بغير طاعتك...)
.
ــــــــــــــ
ويأخذنا الذهول حينما نقرأ هذا النصّ السجّادي الذي أعطانا فيه صورة واضحة متميّزة عن تضرّعه وتذلّله أمام الله سبحانه الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
إنّ المعرفة الحقيقية بأنّ الإنسان فقير إلى الله تعالى ـ كما جسّدته النصوص السابقة ـ تجعله يلتجئ إليه تعالى دائماً، ومن هنا نجد أنّ للإمام السجاد عليه السلام
أدعية في أوقات وحالات متعدّدة بالإضافة إلى ما أوردناه، فله عليه السلام
دعاء في الصلاة على محمّد وآله، وفي الصلاة على حملة العرش، وفي اللجوء إلى الله تعالى، وفي طلب الحوائج، وعند المرض، وفي مكارم الأخلاق، ولجيرانه، ولأوليائه، ولأهل الثغور، وفي الاستخارة، وفي التوبة، وإذا نظر إلى الهلال، وفي يوم عيد الفطر، وفي التذلّل، وعند الشدّة، وعند ذكر الموت، وفي الرهبة، وفي استكشاف الهموم.
وتجلّى من خلال الفصول السابقة أنّ سيرة الإمام زين العابدين عليه السلام
جمعت له روح الثورة ضدّ الطغيان والحماس الجهادي إلى جانب المعرفة الإلهية الحقّة وشدّة التعبّد لله جلّ جلاله، فكانت سيرته عليه السلام
توضيحاً للإجابة عن التساؤلات التي تثار عن إمكانية الجمع بين الدعاء والمناجاة من جهة والروح النهضوية والتضحوية من جهة أُخرى.
ولعلّ منشأ تلك التساؤلات هو توهّم البعض أنّ تفرّغهم للجهاد الأكبر ومجاهدة النفس والرياضات الشرعية والممارسات العبادية يغنيهم عن القتال والعمل الثوري والروح الجهادية باعتبارها جهاداً أصغر، إذ يغفلون عن حقيقة هي: أنّ القيام بالجهاد الأصغر هو أحد المحاور الأساسية للعمل بالجهاد الأكبر في إطاره الأوسع، وأنّ ترك الجهاد ناشئ في معظم الحالات عن هزيمة خفيّة في أحد ميادين الجهاد الأكبر، فالتلازم بين شدّة التقيّة وشدّة البأس أصيل، إذ يعبّر عن حقيقة شمولية الشريعة والدين الالهي الحنيف لكافة أبعاد حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.
فالمعرفة التوحيدية والنهضة صفتان واضحتان جسّدهما أئمّة أهل البيت عليهم السلام
، إذ لم تخل سيرتهم أبداً من اجتماعهما، ويتّضح ذلك من خلال التمعّن في مناجاتهم عليهم السلام
وخطبهم في ميادين الحرب ومواقفهم ضد الحكّام المنحرفين، ونلحظ ذلك عند الإمام السجّاد عليه السلام
في روحه الجهادية الناهضة التي لاحظناها من خلال تصريحاته في الشام وفي مجلس يزيد بن معاوية وهو الأسير المكبّل بالسلاسل، والردّ الحاسم منه في دار الإمارة بالكوفة على من هدّده بالقتل بقوله:(أبالقتل تهدّدنا وإنّ كرامتنا الشهادة)
إنّ هذه الروح هي التي نطقت بأدعية الصحيفة السجادية وبالمناجاة الخمس عشرة
، وفي هذا خير شاهد على اجتماع روح الحماسة وروح الدعاء والمناجاة والعبادة.
وهذه الحقيقة أدّت بدورها إلى أن تَحمل أدعية الإمام عليه السلام
جوانب سياسية، وجهادية، واجتماعية، وأخلاقية، إلى جوار جوانبها العقائدية والمعرفية والعبادية، فكانت ذات أهداف تغييرية شاملة.
لقد كانت للأدعية السجادية أبعاد فكرية واسعة المدى بالنصوص الحاسمة لقضايا عقائدية إسلامية، كانت بحاجة إلى البتّ فيها بنص قاطع، بعد أن عصفت بالعقيدة تيارات الإلحاد كالتشبيه والجبر والإرجاء وغيرها ممّا كان الأمويون وراء بعثها وإثارتها وترويجها، بهدف تحريف مسيرة التوحيد والعدل، تمهيداً للردّة عن الإسلام والرجوع إلى الجاهلية الأولى.
وفي حالة القمع والإبادة ومطاردة كلّ المناضلين الأحرار وتتبّع آثارهم
ــــــــــــــ
وخنق أصواتهم كان قرار الإمام زين العابدين
عليه السلام
باتّباع سياسة الدعاء أنجح وسيلة لبثّ الحقائق وتخليدها، وأأمَن طريقة وأبعدها من إثارة السلطة الغاشمة، وأقوى أداة اتّصال سرّية مكتوبة هادئة موثوقة
.
ظاهرة البكاء في حياة الإمام عليه السلام
:
تختلف دواعي البكاء عند الإنسان ،فقد يبكي شوقاً إلى المحبوب، وقد يبكي اعتراضاً وصرخةً في وجه النظام الغشوم، ومن هنا يمكن تفسير وفهم ما جاء من: (أنّ البكاء على الإمام أبي عبد الله الحسين وسيّد الشهداء عليه السلام
من عوامل السعادة الخالدة والزلفى إلى المهيمن سبحانه).
ولم يزل خاتم الأنبياء محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم
يبكيه في بيته وفي المسجد وحده تارة ومع أصحابه تارة أُخرى، ويجيب من يسأله قائلاً:(أخبرني جبرئيل بقتل ولدي الحسين في جماعة من أهل بيته وأراني التربة التي يقتل فيها)
.
مضافاً إلى ما في البكاء عليه من التعريف بالقساوة التي استعملها الأمويون ولفيفهم، ومن هنا كان الأئمّة يحثّون شيعتهم على عقد المحافل لذكر حادثة الطفّ واستدرار الدموع لكارثتها المؤلمة، وأكثروا من بيان الأجور المترتّبة عليه إلى حد بعيد.
وغير خفيّ أنّ إكثار الإمام زين العابدين عليه السلام
من البكاء على أبيه سيّد الشهداء طيلة حياته لم يكن لمحض الرقّة والعاطفة، بل إنّه عليه السلام
لاحظ به غاية سامية وهي تعريف الأجيال المتعاقبة الواعية لهذا الخَطْب الجليل وهو عليه السلام
شاهد حال بما جاء به الأمويون من القساوة والفظاعة وخروجهم عن الدين والشريعة وتنمّرهم تجاه العدل والمروءة والإنسانية...
ــــــــــــــ
(١) جهاد الإمام السجّاد
: ٢٢٤ ـ ٢٢٥.
(٢) كشف الغمة : ٢ / ٧ ـ ١٢ .
لقد بكى على أبيه المدّة التي عاش فيها حتى قال له مولاه:إنّي أخاف عليك أن تكون من الهالكين، فقال:
(
إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
)
، إنّي لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني العبرة)
.
وقال له آخر: أما آنَ لحزنك أن ينقضي؟ فقال عليه السلام
:(ويلك لقد شكا يعقوب إلى ربّه في أقلّ ممّا رأيت حين قال:
(
يَا أَسَفَى
)
ولم يفقد إلاّ ابناً واحداً وهو حي في الدنيا وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبّحون حولي)
.
وكان عليه السلام
إذا أخذ الإناء لِيشرب الماء تذكّر عطش أبيه ومن معه فيبكي حتى يمزجه من دموعه، فإذا قيل له في ذلك يقول:(كيف لا أبكي وقد مُنِع أبي من الماء الذي هو مطلق للوحوش والسباع)
.
وكثيراً ما كان يحدّث أصحابه بفوائد الحزن في مصابهم والبكاء على ما انتابهم من المحن فيقول:(أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين حتى تسيل على خدّه; بوّأه الله في الجنة غرفاً)
فكان صلوات الله عليه بإدامته البكاء على أبيه يؤجِّج في الأفئدة ناراً لما ارتكبه أولئك الطغاة من الجرائم والمآثم، يأبى الحنان البشري أن يكون صاحبها إنساناً فضلاً عن أن يقود اُمّةً أو يرأس رعيّةً، وفضلاً عن أن يكون خليفة في دين أو متبعاً في دنيا.
وحيث لم تسعه المجاهرة بموبقات من اغتصبهم الخلافة الإلهية وجرّ إليهم الويلات ونكّل بهم; اتّخذ عليه السلام
البكاء طريقاً لتنبيه الناس بتلكم الجرائم، وهذا منه أكبر جهاد ناجع في تحطيم عرش من أهلك الحرث والنسل وعاث في البلاد فساداً وخبالاً، فكان بكاؤه متمّماً للنهضة المقدسة.
ــــــــــــــ
وقد سبقته إلى هذا الجهاد الأكبر جدّته الصدّيقة الزهراءعليهاالسلام
وحاولوا إسكاتها معتذرين بأنّ نفوسهم لا تطيب بطعام ولا شراب وعزيزة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
تنوح الليل والنهار فلم تهدأ عن البكاء، فاضطر سيّد الأوصياء عليه السلام
إلى إخراجها إلى البقيع بعد أن بنى لها بيتاً من جريد النخل سمّاه (بيت الأحزان)، فإنّ الغرض تعريف الأمة من كان مستحقاً للخلافة الإلهية وقد اغتصبت منه.
فالبكاء يوجب إلفات نظر الناس إلى الأسباب الباعثة عليه، وبهذا التفحّص تتجلى لهم الحقيقة ويسطع بصيصٌ مِنْ أَلَقِ الحَقِّ المحجوب بظلم الجائرين...
.
لقد كان البكاء واحداً من الأساليب التي جعلها الإمام السجّاد عليه السلام
وسيلة لإحياء ذكرى كربلاء، كما استعمل أساليب أُخرى:
منها: زيارة الحسين عليه السلام
والحثّ عليها.
قال أبو حمزة الثمالي: سألت عليّ بن الحسين عن زيارة الحسين عليه السلام
فقال:(زره كلّ يوم، فإن لم تقدر فكلّ جمعة، فإن لم تقدر فكلّ شهر، فمن لم يزره فقد استخفّ بحقّ رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم
)
!
ــــــــــــــ
(١) الإمام زين العابدين
للسيّد الموسوي المقرّم: ٣٦٠ ـ ٣٦٥، نشر دار الشبستري للمطبوعات. وفي النص مقاطع أخذها من مصادر أُخرى ذكرها في الكتاب.
(٢) جهاد الإمام السجاد
: ٢٢٠.
ومنها: الاحتفاظ بتراب قبر الحسين عليه السلام
للسجود عليه
.
ومنها: أنّه عليه السلام
كان يتختّم بخاتم أبيه الحسين
عليه السلام
.
ظاهرة الإعتاق في حياة الإمام عليه السلام
:
العتق ظاهرة فريدة جاءت بها الشريعة الإسلامية، وقد اعتنى بها الأئمّة الأطهار اعتناء تاماً، إلاّ أنّ تحرير الرقيق يشكل ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدين عليه السلام
بالخصوص بشكل ليس له مثيل في تأريخ الإمامة، فهو أمر يسترعي الانتباه والملاحظة الفاحصة.
وإذا دقّقنا في الظروف والملابسات التي عاشها الإمام عليه السلام
وقمنا ببعض المقارنات بين أعماله عليه السلام
والأحداث التي كانت تجري من حوله والظروف التي اكتنفت عملية الإعتاق الواسعة التي تبنّاها الإمام عليه السلام
; اتّضحت الصورة الحقيقية لأهدافه عليه السلام
من ذلك.
فيلاحظ أولاً : أنّ أعداد الرقيق والعبيد كانت تتواتر على البلاد الإسلامية، فكان الموالي في ازدياد بالغ مذهل على أثر توالي الفتوحات.
ثانياً: كان الأمويون ينتهجون سياسة التمييز العنصري، إذ كانوا يعتبرون الموالي شبه الناس
.
ثالثاً: أنّ الجهاز الحاكم على الدولة الإسلامية ابتداءً من الخليفة نفسه ومروراً بالأمراء والوزراء وانتهاءً بموظّفي الدولة كانوا لا يمثّلون الإسلام، وإنّما كانوا بالضدّ والنقيض مع أحكامه وأخلاقه وآدابه وإن كانت تلهج ألسنتهم باسمه وتلعق بشهاداته.
ــــــــــــــ
(١) بحار الأنوار : ٤٦ / ٧٩، باب ٥، ح٧٥.
(٢) نقش الخواتيم للسيد جعفر مرتضى: ١١.
(٣) مختصر تأريخ دمشق : ١٧ / ٢٨٤.
رابعاً: أنّ انتشار العبيد والموالي وبالكثرة الكثيرة ومن دون أيّ تحصين أخلاقي أو تربية إسلامية كان يؤدّي إلى شيوع البطالة والفساد، وهو ما ترمي إليه الدولة الظالمة.
ويلاحظ فيما يتّصل بالإمام عليه السلام
:
١ ـ أنّ الإمام عليه السلام
كان يشتري العبيد والإماء ولكن لا يُبقي أحدهم عنده أكثر من سنة واحدة فقط، وهذا يعني أنّه كان مستغنياً عن خدمتهم، فكان يعتقهم بحجج متعدّدة وفي مناسبات مختلفة.
٢ ـ أنّ الإمام عليه السلام
كان يعامل الموالي ـ لا كعبيد أو إماء ـ بل يعاملهم معاملة إنسانية مثالية، ممّا يعزّز في نفوسهم الأخلاق الكريمة ويحبّب إليهم الإسلام وأهل البيت عليهم السلام
.
٣ ـ أنّ الإمام عليه السلام
كان يعلّم الرقيق أحكام الدين ويغذّيهم بالمعارف الإسلامية، بحيث يخرج الواحد من عنده محصّناً بالمعلومات التي تفيده في حياته ويدفع بها الشبهات ولا ينحرف عن الإسلام الصحيح.
٤ ـ كان الإمام عليه السلام
يزوّد من يعتقه بما يغنيه، فيدخل المجتمع ليزاول الأعمال الحرّة كأيّ فرد من الأمة، ولا يكون عالةً على المجتمع.
فالإمام عليه السلام
كان يستهدف إسقاط السياسة التي كان يزاولها الأمويون في معاملتهم للرقيق، فقد حقّق عمل الإمام عليه السلام
النتائج التالية:
أ ـ حرّر مجموعة كبيرة من عباد الله وإمائه الذين وقعوا في الأسر، وتلك حالة استثنائية، ومع أنّ الإسلام كان قد أقرّها لأمور يعرف بعضها من خلال قراءة التأريخ الإسلامي، إلاّ أنّ الشريعة وضعت طرقاً عديدة لتخليص الرقيق وإعطائهم الحرية، وقد استفاد الإمام عليه السلام
من كلّ الظروف والمناسبات لتطبيق تلك الطرق، وتحرير العبيد والإماء، ففي عمل الإمام عليه السلام
تطبيق للشريعة الإسلاميّة.
ب ـ إنّ الرقيق المعتَقين يشكّلون جيلاً من الطلاّب الذين تربّوا في بيت الإمام عليه السلام
وعلى يده بأفضل صورة، وعاشوا معه حياة مفعمة بالحقّ والمعرفة والصدق والإخلاص وبتعاليم الإسلام من عقائد وشرائع وأخلاق كريمة.
فقد كانت جماعة الرقيق تحتفظ بكلّ ذلك في قرارات نفوسهم، في شعورهم أو لا شعورهم، وينقلونه إلى الأجيال اللاحقة، وفي ذلك حفظ للإسلام المحمدي الذي كُلّف أهل البيت عليهم السلام
مسؤولية حفظه وإيصاله إلى الأجيال اللاحقة.
ولا ريب أنّ الإمام عليه السلام
لو أراد أن يفتح مدرسة لتعليم مجموعة من الناس فلابدّ أنّه كان يواجه منعاً من الجهاز الحاكم أو عرقلة لعمله أو رقابة شديدة في أقل تقدير، بينما كان حُرّاً في هذا المجال عن طريق توظيف ظاهرة طبيعية وعادية وهي شراء الرقيق وعتقهم في ذلك الظرف الذي كان يستساغ فيه مثل هذا العمل.
ج ـ لقد استقطب الإمام عليه السلام
ولاء الأعداد الكبيرة من هؤلاء الموالي المحرّرين، إذ لا يزال ولاء العتق يربطهم بالإمام
عليه السلام
ولا بُعد فيه إذا لاحظنا مَنْ يُعتَقُ مع من يرتبط به من أعضاء أسرته وعائلته وأقربائه الذين سوف يوجدون ويرتبطون به عاطفياً وعقائدياً وسياسياً بشكل طبيعي.