عقد الإمام عليه السلام في مكة مؤتمراً سياسيّاً عامّاً دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ من المهاجرين والأنصار والتابعين وغيرهم من سائر المسلمين، فانبرى عليه السلام خطيباً فيهم، وتحدّث عمّا ألمّ بعترة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وشيعتهم من المحن والإحن التي صبّها عليهم معاوية، وما اتّخذه من الإجراءات المشدّدة في إخفاء فضائلهم، وستر ما اُثر عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّهم، وألزم الحاضرين بإذاعة ذلك بين المسلمين، وفيما يلي ما رواه سليم بن قيس عن هذا المؤتمر ونصّ خطاب الإمام عليه السلام حيث قال: ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحسين بن عليّ وعبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر، فجمع الحسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ومن حجّ من الأنصار ممّن


يعرفهم الحسين وأهل بيته، ثم أرسل رسلاً وقال لهم: لا تدعوا أحداً حجّ العام من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله المعروفين بالصلاح والنسك إلاّ اجمعوهم لي، فاجتمع إليه بمنى أكثر من سبعمائة رجل وهم في سرادق، عامّتهم من التابعين، ونحو من مائتي رجل من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أمّا بعد، فإنّ هذا الطاغية - يعني معاوية - قد فعل بنا وبشيعتنا ما قد رأيتم وعلمتم وشهدتم، وإنّي اُريد أن أسألكم عن شيء فإن صدقت فصدّقوني، وإن كذبتُ فكذّبوني، اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم فمن أمنتم من الناس، ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإنّي أخاف أن يندرس هذا الحقّ ويذهب،( وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) ).

قال الراوي: فما ترك الحسين شيئاً ممّا أنزل الله فيهم إلاّ تلاه وفسّره، ولا شيئاً ممّا قاله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في أبيه وأخيه وأمه وفي نفسه وأهل بيته إلاّ رواه، وفي كلّ ذلك يقول أصحابه: اللّهمّ نعم قد سمعنا وشهدنا، وممّا اشدهم عليه السلام أن قال:

(اُنشدكم الله، أتعلمون أنّ عليّ بن أبي طالب كان أخا رسول الله حين آخى بين أصحابه فآخى بينه وبين نفسه، وقال: أنت أخي وأنا أخوك في الدنيا والآخرة؟ قالوا: اللّهمّ نعم، قال: اُنشدكم هل تعلمون أنّ رسول الله اشترى موضع مسجده ومنازله فابتناه ثم ابتنى فيه عشرة منازل تسعة له، وجعل عاشرها في وسطها لأبي، ثم سدّ كلّ باب شارع إلى المسجد غير بابه؟ فتكلّم في ذلك من تكلّم، فقال: ما أنا سددتُ أبوابكم وفتحت بابه، ولكنّ الله أمرني بسدّ أبوابكم وفتح بابه، ثم نهى الناس أن يناموا في المسجد غيره، وكان بجنب في المسجد ومنزله في منزل رسول الله، فولد لرسول الله وله فيه أولاد، قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أفتعلمون أنّ عمر بن الخطاب حرص على كوة قدر عينه يدعها في منزله إلى المسجد فأبى


عليه، ثم خطب فقال: إنّ الله أمرني أن أبني مسجداً طاهراً لا يسكنه غيري وغير أخي وبنيه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله قال في غزوة تبوك: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى، وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين دعا النصارى من أهل نجران إلى المباهلة لم يأت إلاّ به وبصاحبته وابنيه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: اُنشدكم الله أتعلمون أنّ رسول الله دفع إليه اللواء يوم خيبر، ثم قال: لأدفعه إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبّ الله ورسوله كرّار غير فرّار، يفتحها الله على يديه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعثه ببراءة وقال: لا يبلّغ عنّي إلاّ أنا أو رجل منّي؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله لم تنزلْ به شدّة قطّ إلاّ قدّمه لها ثقةً به وأنّه لم يدعه باسمه قطّ، إلاّ يقول يا أخي؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله قضى بينه وبين جعفر وزيد فقال: يا عليّ أنت منّي وأنا منك وأنت وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ قالوا: اللهم نعم.

قال: أتعلمون أنّه كانت له من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ يوم خلوة، وكلّ ليلة دخلة، إذا سأله أعطاه، وإذا سكت أبداه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول الله فضّله على جعفر وحمزة حين قال لفاطمةعليها‌السلام : زوّجتك خير أهل بيتي أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً وأكثرهم علماً؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أنا سيّد ولد آدم، وأخي عليّ سيّد العرب، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة؟ والحسن والحسين ابناي سيّدا شباب أهل الجنة، قالوا: اللّهمّ نعم.

قال: أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمره بغسله، وأخبره أنّ جبرئيل يعينه عليه؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

قال:


أتعلمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال في آخر خطبة خطبها:أ يّها النّاس! إنّي تركتُ فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي فتمسّكوا بهما لن تضلّوا؟ قالوا: اللّهمّ نعم.

فلم يدعصلى‌الله‌عليه‌وآله شيئاً أنزله الله في عليّ بن أبي طالب خاصة وفي أهل بيته من القرآن ولا على لسان نبيّه إلاّ ناشدهم فيه فيقول الصحابة: اللّهمّ نعم قد سمعناه، ويقول التابعي: اللّهم قد حدّثنيه من أثق به فلان وفلان.

ثم ناشدهم أنّهم قد سمعوه يقول: من زعم أنّه يحبّني ويبغض عليّاً فقد كذب، ليس يحبّني وهو يبغض عليّاً، فقال له قائل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: لأنّه منّي وأنا منه، من أحبّه فقد أحبّني ومَن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله؟ فقالوا: اللّهمّ نعم، قد سمعناه، وتفرّقوا على ذلك(1) .

موت معاوية:

لقد كان موت معاوية بن أبي سفيان في سنة ستّين من الهجرة(2) .

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن، فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه من الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة وحمله على رقاب المسلمين، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه - في أثناء وفاته - برحلات الصيد وغارقاً في عربدات السكر ونغمة العيدان(3) .

____________________

(1) كتاب سُليم بن قيس: 323، تحقيق محمد باقر الأنصاري.

(2) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 54.

(3) حياة الإمام الحسين عليه السلام : 2 / 239 - 240.