لم يكن تفتّتُ أركان المجتمع الإسلامي - الذي كان يؤمن بأقدس رسالة سماوية وأعظمها وأشملها - في ظلّ حكم معاوية بن أبي سفيان وليد جهود آنيّة، فقد بدأ الانحراف من يوم السقيفة، إذ تولّى زمام اُمور الأمة مَن كان لا يملك الكفاءة والقدرة المطلوبة، وإنّما تصدّى لها من تصدّى على أساس العصبية القبلية(1) . ويشهد لذلك قول أبي بكر: وُلّيت أمركم ولست بخيركم(2) .

وانحدرت الأمة في واد آخر يوم ميّز عمر بن الخطاب في العطاء بين المسلمين مخالفاً سنّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومبتدعاً نظاماً طبقياً جديداً، حتى إذا حكم عثمان بن عفّان; استفحل الفساد واستشرى في جهاز الحكم والإدارة، حين سيطر فسّاق الناس وشرارهم على أمور الناس فراحوا يعيثون في الأمة فساداً كالوليد بن عقبة والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط وسعيد بن العاص وعبد الله بن سعد بن أبي سرح(3) .

وأصبحت العائلة الأُموية التي لم تنفتح على الإسلام لتشكل قوّة اقتصادية جرّاء نهبهم لثروات الأمة، وعطايا عثمان لهم بغير حق، وتغلغلوا في أجهزة الحكم، وتمكّن معاوية بن أبي سفيان خلال ولايته على الشام منذ عهد عمر أن يُنشئ مجتمعاً وفق ما تهوى نفسه الحاقدة على الإسلام والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

(1) الإمامة والسياسة: 1 / 6.

(2) عليّ والحاكمون: 109، وتأريخ الخلفاء: 71.

(3) تأريخ اليعقوبي: 2 / 41، والعقد الفريد: 2 / 261، وأنساب الأشراف: 5 / 38، وشرح النهج: 1 / 67.


وأهل بيته عليهم السلام ، فقد دخل هو وأبوه الإسلام مقهورين موتورين يوم فتح مكة، ودخل في عداد الطلقاء، بعد أن كان قد فقد جدّه وخاله وأخاه في الصراع ضد الإسلام قبل فتح مكّة.

على أنّ طوال هذه الفترة - منذ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى نهاية حكم عثمان - لم يعتنِ النظام الحاكم بالدعوة الإسلامية ونشرها وترسيخها في النفوس، ولم يسع لاجتثاث العقد والأمراض والعادات القبلية، بل كان همّ الحاكمين هو الاندفاع في الفتوحات طمعاً في توسعة الدولة وزيادة الأموال. وقد عمل الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام منذ وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله جاهداً على أن لا تفقد الأمة شخصيتها الإسلامية وحاول تقليل انحرافها، فكان يتدخّل ويُعِين الفئة الحاكمة تارةً باللين واُخرى بالشدّة متجنّباً الصدام المباشر معهم، لأجل استرداد حقّه الشرعي في الخلافة، مؤثراً مصلحة الإسلام العامّة على ما سواها من المصالح(1) .

لقد فجعت الأمة بمصلحها الكبير - يوم استشهد الإمام علي عليه السلام - وانهارت بين يدي الإمام الحسن بن علي عليهما‌ السلام بعد أن أنهكتها حروب الإصلاح ضد الناكثين والقاسطين والمارقين; إذ أسرعت القوى النفعية والمنافقة والحاقدة على الإسلام إلى الوقوف في وجه الإمام علي عليه السلام متنكرة لأوامر الله سبحانه ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله غير مبالية بمصلحة الأمة، بالرغم من تجسيده للزعامة الحقيقية التي تقود إلى منهج الحقّ والعدل الإلهي، وهم يعلمون بشرعيته التي اكتسبها من الرسالة والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . وهذا ما كان يشكّل خطراً حقيقياً من شأنه أن يلغي وجودهم من المجتمع الإسلامي، ولهذا كانت حروب: الجمل وصفّين ثم النهروان.

____________________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 248.


ورأى الإمام الحسن عليه السلام أن ينهض بالأمة مواصلاً مسيرة الإصلاح ومواجهة الانحراف، ولكنّ الجموع آثرت السلامة والركون إلى الراحة(1) ، فاضطرّ الإمام الحسن عليه السلام إلى الصلح والمهادنة مع معاوية - وهو المتحصّن القويّ في بلاد الشام - على شروط وعهود مهمّة، ليضمن سلامة الصفوة الخيّرة من الأمة، وليبني قاعدة جماهيرية أكثر وعياً وأعمق إيماناً برسالتها الإسلامية، كي لا يُمسخ المجتمع المسلم ولا تُمحق الرسالة; إذ ليس السيف دائماً هو الفيصل في حالات النزاع، فربما كان للكلمة والمعاهدة أثر أبلغ في مرحلة خطرة، حيث الهدف هو صيانة الرسالة الإسلامية وحفظ الأمة الإسلامية في كلّ الأحوال، وليتّضح دور النفاق والعداء الذي كان يتّسم به بنو أُمية وما كان يُضمِرهُ حكّامهم للإسلام.

ولقد وقف الإمام الحسين عليه السلام إلى جانب أخيه الإمام الحسن عليه السلام وعايش جميع الأحداث التي مرّ بها أخوه، وكانا على اتّفاق تامّ في الرأي والموقف، يعاضده في توجيه الأمة وإنقاذها بعد أن رأى كيف أنّ انحراف السقيفة تكاملت أدواره في هذه المرحلة، وقد سرى هذا الانحراف في جسد الأمة حتى غدت لا تتحفّز لنهضة الإمام الحسن عليه السلام ولا تستجيب لأوامره.

وأحاط الإمام الحسن عليه السلام بكلّ ما دبّره معاوية من المكائد والدسائس، وأصبحت الأكثرية من جيش العراق في قبضة معاوية بن أبي سفيان وطغمته، بعد أن كان يمثّل جيش العراق العمود الفقري لجيش الإمام علي عليه السلام .

ولم يكن ليخفى على الإمام الحسين عليه السلام أنّ المعركة - لو قدّر للإمام الحسن أن يدخلها مع معاوية - ستكون لصالح الأخير، وستنتهي حتماً إمّا بقتل

____________________

(1) الإرشاد للمفيد: 8 - 9.


الحسن والحسين وجميع الهاشميّين وخُلَّص شيعتهم، أو ستنتهي بأسرهم، في الوقت الذي تحتاج فيه الأمة الإسلامية إلى وجود الإمام المعصوم بينها لإنقاذ ما تبقّى وبناء ما تهدّم; فإنّ الرسالة الإسلامية خاتمة الرسالات ولابدّ من إتمام ما بناه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام .

ومن ذلك تبيّن أنّ ما رواه بعض المؤرّخين من أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان كارهاً لما فعله الإمام الحسن عليه السلام وأنّه قال له: (أنشدك الله أن لا تصدّق أحدوثة معاوية وتكذّب أحدوثة أبيك) وأنّ الحسن قال له: (أُسكت أنا أعلم منك)... يتبيّن أنّ هذه المرويّات لا أساس لها من الصحة(1) .

هذا بالإضافة إلى أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان أبعد نظراً وأعمق غوراً في الأمور ومعطياتها من أفذاذ عصره الذين قدّروا للحسن عليه السلام موقفه الحكيم الذي لم يكن هناك مجال لاختيار موقف سواه، وكان عليه السلام أرفع شأناً من أن تخفى عليه المصلحة التي أدركها غيره فيما فعله أخوه حتى يقف منه ذلك الموقف المزعوم.

ولا يشكّ المعتقدون بإمامة وعصمة الإمامين الحسنين عليهما‌ السلام في عدم صحة الروايات التي تحدّثت عن معارضة الإمام الحسين عليه السلام لموقف أخيه الإمام الحسن عليه السلام من الصلح مع معاوية.

فإذا كان الحسنان عليهما‌ السلام إمامين مفترضي الطاعة; كان كلّ ما قاما به هو محض التكليف الإلهي، وطبقاً لما أراده الله تعالى لهما، فليس ثمّة مجال لمثل تلك الروايات.

ويشهد على قولنا هذا روايات معتبرة تعارض تلك الروايات غير الصحيحة، منها ما يلي:

____________________

(1) سيرة الأئمّة الاثني عشر: 2 / 23.


1 - قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام : نحن قوم فرض الله طاعتنا، وأنتم تأتمّون بمن لا يعذر الناس بجهالته(1) .

2 - سأل رجل أبا الحسن الإمام الرضا عليه السلام فقال: طاعتك مفترضة؟ فقال: نعم، قال: مثل طاعة عليّ بن أبي طالب عليه السلام ؟ فقال: نعم(2) .

3 - عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال له حمران: جُعلت فداك، أرأيت ما كان من أمر عليّ والحسن والحسين عليهم السلام وخروجهم وقيامهم بدين الله عَزَّ وجَلَّ وما أصيبوا من قتل الطواغيت إيّاهم والظفر بهم حتى قُتلوا أو غلبوا؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : يا حُمران! إنّ الله تبارك وتعالى قد كان قدّر ذلك عليهم وقضاه وأمضاه وحتمه ثمّ أجراه، فبتقدّم علم ذلك إليهم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قام عليّ والحسن والحسين وبعلمٍ صمت من صمت منّا(3) .

4 - وعن عظيم أخلاق الحسين عليه السلام واحترامه لأخيه الحسن عليه السلام قال الإمام محمد الباقر عليه السلام : ما تكلّم الحسين بين يدي الحسن إعظاماً له(4) .

5 - قال أبو عبد الله عليه السلام : إنّ معاوية كتب إلى الحسن بن عليّ (صلوات الله عليهما) أن أقدم أنت والحسين وأصحاب عليّ، فخرج معهم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري فقدموا الشام، فأذن لهم معاوية، وأعدّ لهم الخطباء... ثمّ قال: يا قيس! قم فبايع، فالتفت إلى الحسين عليه السلام ينظر ما يأمره، فقال: يا قيس! إنّه إمامي ( يعني الحسن عليه السلام )(5) .

____________________

(1) أصول الكافي: 1 / 143، باب فرض طاعة الأئمّة.

(2) أصول الكافي: 1 / 143، باب فرض طاعة الأئمّة.

(3) أصول الكافي: 1 / 221 - 222 باب أنّ الأئمّة عليهم السلام لم يفعلوا شيئاً ولا يفعلون إلاّ بعهد من الله عَزَّ وجَلَّ وأمر منه لا يتجاوزونه.

(4) حياة الإمام الحسين: 2 / 252.

(5) بحار الأنوار: 44 / 61.