وثقل حال الإمام عليه السلام واشتدّ به الوجع فأخذ يعاني آلام الاحتضار، فعلم أنّه لم يبق من حياته الغالية إلاّ بضع دقائق فالتفت إلى أهله قائلاً :

"أخرجوني إلى صحن الدار أنظر في ملكوت السماء" .

فحملوه إلى صحن الدار ، فلمّا استقرّ به رفع رأسه إلى السماء وأخذ يناجي ربّة ويتضرع إليه قائلاً :

" اللّهم إنّي احتسب عندك نفسي ، فإنّها أعزّ الأنفس عليَّ لم أصب بمثلها ، اللّهم آنس صرعتي ، وآنس في القبر وحدتي " .

ثم حضر في ذهنه غدر معاوية به ، ونكثه للعهود ، واغتياله إيّاه فقال :

" لقد حاقت شربته ، والله ما وفى بما وعد ، ولا صدق فيما قال "(١) .

وأخذ يتلو آي الذكر الحكيم ويبتهل إلى الله ويناجيه حتى فاضت نفسه الزكية إلى جنّة المأوى ، وسمت إلى الرفيق الأعلى ، تلك النفس الكريمة التي لم يخلق لها نظير فيما مضى من سالف الزمن وما هو آت حلماً وسخاءً وعلماً وعطفاً وحناناً وبرّاً على الناس جميعاً .

لقد مات حليم المسلمين ، وسيّد شباب أهل الجنّة ، وريحانة الرسول وقرّة عينه ، فأظلمت الدنيا لفقده ، وأشرقت الآخرة بقدومه(٢) .

__________

(١) تذكرة الخواص : ٢٣ ، وتاريخ ابن عساكر : ٤ / ٢٢٦ ، وحلية الأولياء : ٢ / ٣٨ ، وصفوة الصفوة : ١ / ٣٢٠.

(٢) اختلف المؤرّخون في السنة التي توفّي فيها الإمام فقيل : سنة ٤٩ هـ ، ذهب إلى ذلك ابن الأثير وابن حجر في تهذيب التهذيب ، وقيل : سنة ٥١ هـ ، ذهب إلى ذلك الخطيب البغدادي في تاريخه وابن قتيبة في الإمامة والسياسة ، وقيل غير ذلك ، وأمّا الشهر الذي استشهد فيه فقد اختلف فيه أيضاً ، فقيل : في ربيع الأول لخمس بقين منه ، وقيل: في صفر لليلتين بقيتا منه ، وقيل: يوم العاشر من المحرم يوم الأحد سنة ٤٥ من الهجرة كما في المسامرات ( ص٢٦ ) ، وثمّة قول آخر: إنّه استشهدعليه‌السلام في السابع من صفر .


وارتفعت الصيحة من بيوت الهاشميّين ، وعلا الصراخ والعويل من بيوت يثرب ، وهرع من في يثرب نحو ثوي الإمام وهم ما بين واجم وصائح ومشدوه ونائح قد نخب الحزن قلوبهم على فقد الراحل العظيم الذي كان ملاذاً لهم وملجأً ومفزعاً إن نزلت بهم كارثة أو حلّت بهم مصيبة .