لم تذكر المصادر التأريخية نصّاً صريحاً لكتاب الصلح، الذي يعتبر الوثيقة التأريخية لنهاية مرحلة من أهم مراحل التأريخ الإسلامي، وبخاصة في عصوره الأول، ولا نعرف سبباً وجيهاً لهذا الإهمال .

وقد اشتملت المصادر المختلفة على ذكر بعض النصوص مع إهمال البعض الآخر، ويمكن أن تؤلف من مجموعها صورة الشروط التي أخذها الإمام عليه السلام على معاوية في الصلح، وقد نسّقها بعض الباحثين وأوردها على صورة مواد خمس، ونحن نوردها هنا كما جاءت، ونهمل ذكر المصادر التي ذكرها في الهامش اعتماداً عليه(١) .

وهي كما يلي :

١ ـ تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله وبسنّة رسوله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم وبسيرة الخلفاء الصالحين .

__________

(١) يراجع صلح الحسن، لآل ياسين : ص٢٥٩، وقد اعتمد في نقله على اُمهات الكتب والمصادر التاريخية كالطبري وابن الأثير وابن قتيبة والمقاتل وغيرها .


٢ ـ أن يكون الأمر للحسن من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد .

٣ ـ أن يترك سبّ أمير المؤمنين والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر عليّاً إلاّ بخير .

٤ ـ استثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة آلاف ألف، فلا يشمله تسليم الأمر، وعلى معاوية أن يحمل إلى الحسن ألفي ألف درهم، وأن يُفضّل بني هاشم في العطاء والصِلات على بني عبد شمس، وأن يفرِّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل، وأولاد من قتل معه بصفّين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجر .

٥ ـ على أنّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يؤمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية ما يكون من هفواتهم، وأن لا يتبع أحداً بما مضى، ولا يأخذ أهل العراق بإحنة .

وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وأن لا ينال أحداً من شيعة عليّ بمكروه، وأنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، وأن لا يتعقّب عليهم شيئاً ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه، وعلى ما أصاب أصحاب عليّ حيث كانوا .

وعلى أن لا يبغي للحسن بن عليّ ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من أهل بيت رسول الله غائلة، سرّاً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق.

وقد اعتبر بعض الباحثين المادة الرابعة من موضوعات الأُمويين أو العباسيين لتشويه صورة أهل البيت عليهم السلام وبخاصة الإمام الحسن عليه السلام ،


باعتبار أنّ هذه المادة لا تتناسب وشأن الإمام الحسن عليه السلام ومقامه(١) والله أعلم .

هذه إذن هي المواد الخمس التي أوصلها لنا التاريخ كأسس للصلح بين الحسن ومعاوية، أو على الأقلّ أنّها تمثل طبيعة الشروط التي أملاها الإمام عليه السلام على معاوية .

أسباب الصلح كما تُصَورّها النصوص عن الإمام الحسن عليه السلام :

١ ـ روى الشيخ الصدوق في " علل الشرايع " بسنده عن أبي سعيد عقيصا الذي سأل الإمام الحسن عليه السلام عن السبب الذي دفعه إلى الصلح مع معاوية من أنّه عليه السلام يعلم أنّه على الحقّ وأنّ معاوية ضالّ وظالم، فأجابه الإمام عليه السلام :" يا أبا سعيد، ألستُ حجّة الله تعالى ذكره على خلقه، وإماماً عليهم بعد أبي عليه السلام ؟ قلتُ : بلى، قال :ألستُ الذي قال رسولُ الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم لي ولأخي : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ؟ قلتُ : بلى، قال :فأنا إذن إمام لو قمتُ، وأنا إمام إذا قعدتُ، يا أبا سعيد عِلّةُ مصالحتي لمعاوية علّة مصالحة رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم لبني ضُمْرة وبني أشجع، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أُولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنتُ إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يُسَفَّه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته مُلتبساً، ألا ترى الخضر عليه السلام لمَّا خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى عليه السلام فعله؟ لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي. هكذا أنا، سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه، ولو لا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحدٌ إلاّ قُتِل " (٢) .

__________

(١) زندگانى امام حسن : ٢٢٣ .

(٢) علل الشرايع : ٢٠٠ .


ونقل الطبرسي في " الاحتجاج "(١) شبيه هذا السبب عن الإمام الحسن عليه السلام .

٢ ـ ذكر زيد بن وهب الجهني أنّه بعد أن جُرح الإمام عليه السلام في المدائن، سألته عن موقفه الذي سيتّخذه في هذه الظروف، فأجاب عليه السلام :" أرى والله معاوية خيراً لي من هؤلاء، يزعمون أنّهم لي شيعة، ابتغوا قتلي وانتهبوا ثقلي، وأخذوا مالي، والله لأن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وآمَن به في أهلي خيرٌ من أن يقتلوني فيضيع أهل بيتي وأهلي، والله لو قاتلتُ معاوية لأخذوا بعنقي حتى يدفعوني إليه سِلْماً، فو الله لإن أسالمه وأنا عزيز خيرٌ من أن يقتلني وأنا أسيره أو يَمُنّ عليّ فتكون سُبّةً على بني هاشم إلى آخر الدّهر، ومعاوية لا يزال يَمُنُّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت " (٢) .

٣ ـ وذكر سليم بن قيس الهلالي أنه عندما جاء معاوية إلى الكوفة; صعد الإمام الحسن عليه السلام المنبر بحضوره، وبعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه، قال :" أيّها الناس إنّ معاوية زعم أنّي رأيته للخلافة أهلاً، ولم أر نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية، أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبيّ الله، فاُقسم بالله لو أنّ الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قَطْرَها، والأرضُ بركتها، ولما طمعتَ فيها يا معاوية، وقد قال رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ وآله‌ وسلم : ما ولّت أُمة أمرها رجلاً قطّ وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرُهم يذهب سِفالاً، حتى يرجعوا إلى ملّة عبدةِ العجل " (٣) .

٤ ـ وعن سبب الصلح روى العلاّمة القندوزي في " ينابيع المودة " أنّ الإمام الحسن عليه السلام ألقى في الناس خطاباً جاء فيه :" أيّها الناس قد علمتم أنّ الله

__________

(١) بحار الأنوار : ٤٤ / ١٩ .

(٢) الاحتجاج للطبرسي : ١٤٨ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٤ / ٢٢ .


 (جلّ ذكره وعزّ اسمه) هداكم بجدَّي وأنقذكم من الضلالة، وخلّصكم من الجهالة، وأعزّكم به بعد الذلّة، وكثّركم به بعد القلّة، وأنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي دونه، فنظرت لصلاح الأُمة وقطع الفتنة، وقد كنتم بايعتموني على أن تُسالموا من سالمني وتحاربوا مَن حاربني، فرأيتُ أن أسالم معاوية وأضعَ الحرب بيني وبينه، وقد صالحته ورأيتُ أنّ حقن الدماء خيرٌ من سفكها، ولم أرد بذلك إلاّ صلاحكم وبقاءكم ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ) " (١) .

٥ ـ في رواية نقلها السيد المرتضى (رحمة الله عليه) أنّ حجر بن عدي اعترض على الإمام عليه السلام بعد موافقته على الصلح وقال له : "سوّدت وجوه المؤمنين" فأجابه الإمام عليه السلام :"ما كلُّ أحد يحبُّ ما تحبّ ولا رأيه كرأيك، وإنّما فعلتُ ما فعلتُ إبقاءً عليكم" .

وبعد ذلك أشار إلى أنّ شيعة الإمام عليه السلام اعترضوا على الصلح وأعربوا عن تأسّفهم لقرار الإمام عليه السلام ، ومن بينهم سليمان بن صرد الخزاعي الذي قال للإمام : "ما ينقضي تعجّبنا من بيعتك معاوية، ومعك أربعون ألف مقاتل من أهل الكوفة، كلّهم يأخذ العطاء، وهم على أبواب منازلهم، ومعهم مثلهم من أبنائهم وأتباعهم، سوى شيعتك من أهل البصرة والحجاز، ثم لم تأخذ لنفسك ثقة في العقد، ولا حظّاً من العطيّة، فلو كنت إذ فعلتَ ما فعلتَ أشهدت على معاوية وجوه أهل المشرق والمغرب، وكتبت عليه كتاباً بأنّ الأمر لك بعده، كان الأمر علينا أيسر، ولكنّه أعطاك شيئاً بينك وبينه لم يفِ به، ثم لم يلبث أن قال على رؤوس الأشهاد : " إنّي كنتُ شرطتُ شروطاً ووعدتُ عداة إرادة لإطفاء نار الحرب، ومداراةً لقطع الفتنة، فلمّا أن جمع

__________

(١) ينابيع المودة : ٢٩٣ .


الله لنا الكَلِم والألفة فإنّ ذلك تحت قدمي" والله ما عنى بذلك غيرك، وما أراد إلاّ ما كان بينك وبينه، وقد نقض، فإذا شئت فأعِد، الحرب خدعة، وائذن لي في تقدّمك إلى الكوفة، فاُخرج عنها عاملَه واُظهر خلعه وتنبذ إليه على سواء، إنّ الله لا يحبّ الخائنين، وتكلّم الباقون بمثل كلام سليمان.

فأجابه الإمام عليه السلام : "أنتم شيعتنا وأهل مودّتنا، فلو كنتُ بالحزم في أمر الدنيا أعمل، ولسلطانها أركض وأنصب، ما كان معاوية بأبأس منّي بأساً، ولا أشدّ شكيمة ولا أمضى عزيمةً، ولكنّي أرى غير ما رأيتم، وما أردت بما فعلتُ إلاّ حقن الدماء فارضوا بقضاء الله، وسلّموا لأمره والزموا بيوتكم وأمسكوا"(١) .