وصلت أنباء استسلام عبيد الله لعدوّه إلى المدائن، وشاع جوّ من المحنة في النفوس، وشعر الإمام عليه السلام بالطعنة في الصميم تأتيه من أقرب الناس إليه وأخصّهم به، وتسرّبت إليه أنباء عن مكاتبة بعض رؤساء الأجناد والقوّاد لمعاوية وطلبهم الأمان لأنفسهم وعشائرهم، ومكاتبة معاوية لبعضهم بالأمان والمواعيد(٢) .

وممّا يذكر : "أنّ معاوية دسّ إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كلّ واحد منهم بعين من عيونه : أنّك إذا قتلت الحسن فلك مئة ألف درهم، وجندٌ من أجناد الشام، وبنتٌ من بناتي" .

فبلغ الحسن عليه السلام ذلك فاستلأم ولبس درعاً وسترها، وكان يحترز ولا يتقدّم للصلاة إلاّ كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت

__________

(١) مقاتل الطالبيين : ٣٥ .

(٢) أعيان الشيعة : ٤ / ٢٢ .


فيه لما عليه من اللامة(١) .

وهكذا توالت الخيانات في جيش الإمام، ومن ذلك : "أنّ الحسن بعث إلى معاوية قائداً من كندة في أربعة آلاف، فلمّا نزل الأنبار بعث إليه معاوية بخمسمئة ألف درهم، ووعده بولاية بعض كور الشام والجزيرة، فصار إليه في مئتين من خاصّته، ثم بعث رجلاً من مراد ففعل كالأول بعدما حلف الأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنّه لا يفعل، وأخبرهم الحسن أنّه سيفعل كصاحبه"(٢) .

ويقف الإمام الحسن عليه السلام أمام هذه النكبات والمحن المتتالية، متطامناً على نفسه ناظراً في أمره، وإلى أين ستنتهي به هذه المسيرة .

والذي يظهر لنا من بعض النصوص أنّ ابن عباس لم يفرَّ وحده، بل خرج معه عدد وفير من الزعماء والقوّاد والجند، وهو أمر يمكن أن يساعد عليه الجوّ المشحون بالتشاؤم واليأس من توقّع انتصار الإمام عليه السلام على عدوّه.

وهكذا أخذت الأنباء تتوارد على الإمام في المدائن بفرار الخاصة من القواد والزعماء، وقدتبع انهزام هؤلاء فرار كثير من الجند، حيث كان انهزامهم سبباً لحدوث تمرّد وفوضى شاملة في الجيش .

وقد ارتفعت أرقام الفارّين إلى معاوية بعد فرار عبيد الله وخاصّته إلى ثمانية آلاف، كما يذكر اليعقوبي في تاريخه فيقول : "إنّه ـ يعني معاوية ـ أرسل إلى عبيد الله بن عباس، وجعل له ألف ألف درهم، فصار إليه في ثمانية آلاف من أصحابه، وأقام قيس بن سعد على محاربته"(٣) .

__________

(١) أعيان الشيعة : ٤ / ٢٢ .

(٢) المصدر السابق .

(٣) صلح الإمام الحسن عليه‌السلام : ٨٠ .


واذا أخذنا في اعتبارنا أنّ الجيش الذي كان في "مسكن" إثنا عشر ألفاً فستكون نسبة الفارّين منه إلى معاوية وهي ثلثا الجيش نسبة كبيرة، في حين كان الجيش الذي يقوده معاوية لمواجهة الحسن عليه السلام ستين ألفاً تضاف إليه آلاف الفارّين من جيش الحسن عليه السلام .

وحقّاً أنّها لصدمة رهيبة ومحنة حادّة تتداعى أمامها القوى، وتنفرج بها أنياب الكارثة عن مأساة مرعبة يتحمّل جزءً كبيراً من مسؤوليّتها عبيد الله بن العباس أمام الله والتاريخ .

والشيء الذي يمكن فهمه من هذا الفرار الجماعي هو وجود تآمر على الخيانة في أوساط جملة من الزعماء والوجوه، وإلاّ فبأيّ قاعدة منطقية يمكن تفسير فرار ثمانية آلاف مقاتل من جيش يستعد للقتال في فترة قصيرة، وهل يكون ذلك إلاّ عن سابق تفكير وإحكام لخطة خائنة؟!

ويقف الإمام عليه السلام باحثاً عن المخرج من هذا المأزق الذي تداعت به معنويات جيشه في "مسكن" وتزلزلت منه قوى جيشه في المدائن، خاصة إذا نظر بعين الموازنة بين جيشه وجيش عدوه من حيث العدد .

فكان جيشه يتألف من عشرين ألفاً فقط كما أجمعت عليه المصادر التاريخية(١) بينما يتألف جيش عدّوه من ستين ألفاً، وبعد لحاظ الآلاف الثمانية التي التحقت بمعاوية في "مسكن " بعد خيانة عبيد الله يصبح جيش الحسن عليه السلام خمس جيش عدوه، وهذا انهيار كبير حسب الموازين والحسابات العسكرية، هذا فضلاً عمّا تقوله بعض المصادر بخصوص فرار بعض أفراد الجيش في المدائن ممّن استهوتهم المطامع بالاستيلاء على

__________

(١) صلح الإمام الحسن عليه‌السلام : ٨١ .


المغانم وجاءوا رغبة فيها إذا قدِّر الانتصار لجيش الإمام الحسن عليه السلام ، فواكبوا مسيرة الجيش، ثم فرّوا بعد أن أحسّوا تفوّق الطرف الآخر عسكرياً في العدَّة والعدد .

وممّا زاد في انهيار الموقف حرب الإشاعات الكاذبة التي شنّها معاوية للقضاء على البقية الباقية من معنويات الجيش في مسكن والمدائن، ونذكر هنا بعض هذه الشائعات ومدى تأثيرها على المعنويات العامة في جيش الإمام الحسن عليه السلام بكلا شقّيه في المدائن ومسكن .

وقد عمل معاوية بكلّ ما أمكنه من خبث ومكر من أجل الوقيعة بالجيش الكوفي وتفتيت قواه، وكان اختياره للأكاذيب ينمّ عن خبرة دقيقة في حبكها وانتقائها، فأرسل من يدسّ في معسكر المدائن : "... بأنّ قيس بن سعد وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس قد صالح معاوية وصار معه ..."(١) .

" ويوجّه إلى عسكر قيس في مسكن من يتحدّث أنّ الحسن قد صالح معاوية وأجابه ..."(٢) .

ثم ينشر في المدائن إشاعةً هي : ".. ألا إنّ قيس بن سعد قد قتل فانفروا، فنفروا بسرادق الحسن فنهبوا متاعه فنازعوه بساطاً تحته، فازداد لهم بغضاً ومنهم ذعراً، ودخل المقصورة البيضاء في المدائن ..."(٣) .

وهكذا طوّقت موجة الشائعات المتدفّقة بمكر معاوية وخبثة جناحي الجيش في المدائن ومسكن، وفَصَمَتْ ما تبقّى فيه من تماسك، وكانت سبباً في زلزلة فئات كثيرة من غوغاء الناس المتأرجحين بين الطاعة والعصيان

__________

(١) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩١ .

(٢) تأريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩١ .

(٣) تأريخ ابن الأثير : ٣ / ٢٠٣ .


ومحبّي الفتن والاضطرابات .

وما الذي ينتظر أن تفعله الشائعات في جيش كجيش المدائن الذي سبق وأنّه علم بخيانة قائد "مسكن " الذي لم يكن قيس بمنزلته في نظره، فلِمَ لا يصدق خيانة قائدها الثاني أو خبر قتله ؟ وليس جيش مسكن بأقلّ حظّاً من تأثّره بهذه الشائعات، وقد سبق وأنّه أصيب بخيانة قائده من قبل .

وفي غمرة هذه الأحداث جاء وفد يمثّل أهل الشام مؤلّف من المغيرة بن شعبة وعبد الله بن كريز وعبد الرحمن بن الحكم وهو يحمل كتب أهل العراق ليُطلع الإمام الحسن عليه السلام عليها وما تكنّه ضمائر بعض أصحابه من السوء، وأنّهم تطوّعوا في صفوف جيشه لإذكاء نار الفتنة عندما يحين موعدها المرتقب، وتُنشر الكتب بين يدي الإمام عليه السلام ولم تكن لتزيده يقيناً على ما يعرف من أصحابها من دخيلة السوء وحبّ الفتنة، وكانت خطوطهم وتواقيعهم واضحة لديه وصريحة .

وعُرض الصلح على الإمام بالشروط التي يراها مناسبة، ولكنّ الإمام لم يشأ أن يعطيهم من نفسه ما يرضي به طموح معاوية، وكان دقيقاً في جوابه، بحيث لم يشعرهم فيه بقبول الصلح أو ما يشير إلى ذلك، بل اندفع يعظهم ويدعوهم إلى الله عَزَّ وجَلَّ وما فيه نصح لهم وللأُمة ويذكّرهم بما هم مسئولون به أمام الله ورسوله في حقّه .

وحين رأى المغيرة ورفاقه أنّ الدور الأول من الرواية التي حاولها مكر معاوية قد فشلت في إقناع الإمام عليه السلام بالصلح بل بقي موقفه صامداً أمام هذه المؤثرات القوية انتقلوا لتنفيذ حلقة ثانية من سلسلة المحاولات المعدّة من قبل معاوية وإن آتت أُكلها لاحقاً، فلا أقل من أنّها ستترك أثراً سيّئاً يزيد موقف الإمام حراجةً وإن لم يتحقّق منها إقناع الإمام بالصُلح .


وغادر الوفد مقصورة الإمام مستعرضاً مضارب الجيش الذي كان يترقّب نتائج المفاوضات، فرفع أحد أفراد الوفد صوته ليسمعه الناس : "إنّ الله قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكّن الفتنة وأجاب إلى الصلح ..."(١) .

وهكذا مثّلوا دورهم أروع تمثيل، وخلقوا جوّاً لاهباً من المأساة تدهور على أثرها الموقف، وتفجّرت كوامن الفتنة واضطرب تماسك الجيش ولاحت في الأفق بوادر المحنة، فأيّ غائلة هذه التي ألهب نارها المغيرة ورفاقه ؟.