وهكذا وقف أهل الكوفة هذا الموقف المتخاذل من قائدهم وإمامهم، إذ سكتوا حيث طلب منهم الإجابة على ندائه بالخروج إلى معسكرهم في النخيلة، فتحوّلت أعينهم وهلعت قلوبهم، فلمّا رأى ذلك عدي بن حاتم الطائي قام فقال : "أنا ابن حاتم، سبحان الله ! ما أقبح هذا المقام! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيّكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة، فإذا جَدّ الجدّ فروّاغون كالثعالب؟ أما تخافون مقت الله، ولا عيبها وعارها".
ثم استقبل الإمام الحسن بوجهه، فقال : "أصاب الله بك المراشد وجنّبك المكاره ووفّقك لما تحمد ورده وصدره، قد سمعنا مقالتك وانتهينا إلى أمرك وسمعنا لك وأطعنا فيما قلت ورأيت وهذا وجهي إلى معسكري، فمن أحبّ أن يوافيني فليواف " ثمّ مضى لوجهه، فخرج من المسجد ودابته بالباب فركبها ومضى إلى النخيلة
__________
وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه، وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكرا
.
وقام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن صعصعة التيمي فأنّبوا الناس ولاموهم وحرّضوهم وكلّموا الإمام الحسن بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة والقبول، فقال لهم الإمام الحسن عليه السلام
:"صدقتم رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النيّة والوفاء والقبول والمودّة الصحيحة فجزاكم الله خيراً"
، ثم نزل وخرج الناس فعسكروا ونشطوا للخروج، وخرج الإمام الحسن عليه السلام
إلى المعسكر واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وأمره باستحثاث الناس وإشخاصهم إليه، فجعل يستحثّهم ويخرجهم حتى يلتئم العسكر وسار الإمام عليه السلام
في عسكر عظيم وعدّة حسنة حتى انتهى إلى النخيلة .
وهكذا بدأت المسيرة، ولكن دون أن يكون دافع الحركة اختيارياً بتثاقل وإكراه تفرضه طبيعة الموقف المتخاذل، ولولا الصفوة الخيّرة والثلّة المؤمنة; لانقلب ميزان الموقف وانتصرت عوامل الضعف عاجلاً، ولكن موقف هؤلاء المتصلّب المنطلق من إيمانهم الجاد بحكمة القائد ولزوم اتباعه وأحقّيته بالخلافة، كان من أقوى الأسباب التي حفظت للجيش تماسكه وانقياده وبعث النشاط والحماس فيه .