ومرّت تلك الأيام بعطائها وحلوها

ومرّت تلك الأيام بعطائها وحلوها ومرّها حتى جاءت السنة العاشرة من الهجرة دعا النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) عامة المسلمين لأداء مناسك الحج ، وحجّ بهم حجّة الوداع ، وعلّمهم أحكام الحج ومناسكه، وعند العودة توقّف الركب عند غدير خم ، وصعد النبي (صلى الله عليه وآله) على منبر من أحداج الإبل ونادى بصوت عال بعد تمهيدات عديدة : « من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه » فنصب عليّاً (عليه السلام) لخلافته من بعده ، ثم أمر المسلمين فبايعوا عليّاً وسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ، ثمّ تفرّقوا في بلدانهم ، وعاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلىالمدينة .



وبدخول السنة الحادية عشرة من الهجرة، وفي الأيام الأخيرة من شهر صفر اشتكى النبيّ من مرض ألمّ به، وكان قد عزم على غزو الروم وأعدّ لقيادة جيشه اُسامة بن زيد وهو في مطلع شبابه ، وأمر جميعَ المهاجرين والأنصار أن ينضمّوا اليه ، وجعل يستحثّهم على الخروج، ونصّ على بعضهم بالاسم ليخلي الساحة من المخالفين والمتربّصين، ويفوّت الفرصة على المعارضين لخلافة الإمام عليّ (عليه السلام) .



وظنّ أكثر المسلمين في بداية الأمر أنّها وعكة صحيّة طارئة لا تلبث أن تزول بسرعة ، غير أنّ الزهراء لم تكد تسمع بشكوى أبيها حتى ارتجّ قلبها وانهارت وكأنّها والموت على ميعاد ، فقد بانت أمارات الموت عليه(صلى الله عليه وآله) وضعفت صحّته ، فكان يتهيّأ ويوصي بأهل بيته في كلّ مناسبة، ويزور البقيع ويخاطبهم بكلمات تُشعر بدنوّ أجله ، لا سيما وقد سمعته قبل ذلك يقول في بعض المناسبات لأصحابه وهو يعظهم : « يوشك أن اُدعى فاُجيب»، وسمعته يقول في حجّة الوداع على جبل عرفات وقد وقف بين المسلمين : «لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا»، وتكرّرت منه هذه المقالة في السنة العاشرة من الهجرة.



ومرّةً رأت فاطمة (عليها السلام) في منامها ـ بعد حجّة الوداع ـ أنّها كانت تقرأ القرآن وفجأةً وقع القرآن من يدها واختفى ، فاستيقظت مرعوبةً وقصّت الرؤيا على أبيها (صلى الله عليه وآله) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أنا ذلك القرآن ـ يا نور عيني ـ وسرعان ما أرحل »[1] .



لقد كانت فاطمة (عليها السلام) وأمير المؤمنين أشدّ الناس لصوقاً وأقربهم إلى رسول الله في فترةِ مرضه وحتى وفاته (صلى الله عليه وآله)، فعن عليّ (عليه السلام) : أنّ معاذاً سأل عائشة كيف وجدت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند وجعه ووفاته ؟ فقالت : يا معاذ ما شهدته عند وفاته ولكن دونك هذه فاطمة ابنته فاسألها[2] .



كما أنّ فاطمة كانت تطوف حين مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله) على أزواجه فتقول : إنّه يشق على النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يطوف عليكنّ ، فقلن هو في حلّ[3] .



واشتد المرض بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) أكثر فأكثر ، فهو مسجّىً على فراش الموت والزهراء بجانبه يشتدّ وجدها على أبيها، وتقول: واكربي لكربك يا أبتاه! فتارةً تحدّق في وجهه الشاحب وتذرف الدموع الساخنة، واُخرى تدعو له بالسلامة .



لقد ثقل المرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أُغمي عليه ، فلمّا أفاق; وجد أبا بكر وعمر وآخرين عنده ، فقال (صلى الله عليه وآله) : « ألم آمركم بالمسير في جيش اُسامة ؟ » فاعتذروا إلاّ أنّ النبىّ (صلى الله عليه وآله) كان يعلم ما تُكِنُّ صدورهم وما يبيّتون من بقائهم في المدينة ليبتزّوا مركز القيادة الإسلامية، فقال (صلى الله عليه وآله) : « إئتوني بدواة وبياض ، أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي أبداً »، فتنازعوا فقالوا : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهجر وفي نص آخر : قال عمر : إن النبيّ غلبه الوجع حسبُنا كتاب الله فاختلفوا وكثر اللغط ، قال (صلى الله عليه وآله) : قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع[4] .



كانت الزهراء ترى كلّ ذلك بقلب حزين وعين دامعة ، وكأ نّها ترتقب أياماً صعبة الأحداث .