وشاء الله سبحانه وتعالى أن تشهد

وشاء الله سبحانه وتعالى أن تشهد فاطمة فترة صراع الدعوة في مكة ، وتشهد محنة أبيها (صلى الله عليه وآله) ، فترى الأذى والاضطهاد يقع عليه ، وتشهد جوّ مكة المعادي لبيت النبوّة ، بيت الهدى والإيمان والفضيلة ، وتشاهد أباها والصفوة المؤمنة من دعاة الإسلام والسابقين بالإيمان يخوضون ملحمة البطولة والجهاد ، فيؤثّر هذا الجوّ الجهادي في نفسها ، ويساهم في تكوين شخصيّتها وإعدادها لحياة التحمّل والمعاناة ، لقد عايشت فاطمة كلّ ذلك وهي بعد لمّا تزل صبيّة صغيرة، لقد عايشت المحنة الأشد مع أبيها، بعد فقد اُمها ، المواسي والأنيس والحبيب الذي كان يخفّف عنها متاعب الحياة والآلام والاضطهاد ، وبعد فقده عمّه أبا طالب حامي الدعوة والمدافع عن رسول الله الذي ما تجرأت قريش في حياته أن تؤذيه (صلى الله عليه وآله) أو تنال منه شيئاً ، إلاّ كان لها بالمرصاد[4] ، هذه الحماية التي عبّر عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد فقده أبا طالب بقوله : « ما زالت قريش كاعة[5] عنّي حتى مات أبو طالب »[6] .



لقد صبّت قريش حقدها وأذاها على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تلك الفترة العصيبة من عمر الدعوة ، وبكل ما تملك من وسائل الأذى والاستهزاء والسخرية ومحاولات الانتقاص من مكانة محمد (صلى الله عليه وآله) وشخصيته .



لقد تحمّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أجل دعوته وفي سبيل مبادئه ورسالته ما لم يتحمّله أحد من الأنبياء ، فقد بلغ الأمر بأحد سفهاء قريش أن يغترف غرفة من تراب الأرض ويقذفها في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى رأسه ، فيتحمّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذا الأذى ويعود إلى بيته صابراً محتسباً وقد لطخ التراب وجهه ورأسه، ويعود إلى بيته وفاطمة (عليها السلام) تنظر اليه فترى ما لحق به من أذى قريش وتماديها في الصلف والغرور ، فيحزّ الألم في نفسها ويعظم عليها تجرؤ السفهاء والمغرورين من طغاة الجاهلية ومتكبّريها على رسول الله(صلى الله عليه وآله) ثم تقوم لأبيها وتنفض التراب عنه وتأتي بالماء وتغسل رأسه ووجهه الكريم .



ولم يمرّ هذا المشهد المؤلم دون أن يؤثّر في نفسها (عليها السلام) فيستبدّ بها الحزن والألم على القائد رسول الله أبيها (صلى الله عليه وآله) فتبكي وتتألّم لجرأة هؤلاء الجاهلين الطغاة على رجل يريد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ويهديهم سبيل الهدى والرشاد ، ويؤثّر موقف فاطمة في نفس أبيها (صلى الله عليه وآله) ويشعر بحرارة الألم تمسّ قلبها ، فيحاول (صلى الله عليه وآله) أن يخفّف عنها ويحثّها على التجلّد والتحمّل ، فيمدّ يديه الكريمتين ويضعهما على رأسها فيمسّه برقّة وحنان وهو يقول لها : « لا تبكي يا بنية فإنّ الله مانع أباك ، وناصره على أعداء دينه ورسالته »[7] .



بهذه الكلمات الجهادية المربّية يحاول رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يزرع في نفس فاطمة (عليها السلام) روحاً جهادية عالية ، ويملأ نفسها وقلبها بالصبر والثقة بالنصر .



ولم تنته هذه المشاهد المثيرة المؤلمة ولم يقف أذى قريش واستخفافها برسول الله (صلى الله عليه وآله) ودعوة الحقّ والهدى والتحرير إلى هذا الحدّ ، بل راحت تتمادى في غيّها وتصرّ على عنتها وكبريائها ، فقد روي عن عبدالله ابن مسعود أنّه قال : ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعا على قريش غير يوم واحد، فإنّه كان يصلّي ورهط من قريش جلوس ، وسلى[8] جزور قريب منه ، فقالوا : من يأخذ هذا السلى فيلقيه على ظهره ، فقام رجل ـ وهو عقبة بن أبي معيط ـ وألقاه على ظهره فلم يزل ساجداً حتى جاءت فاطمة (عليها السلام) فأخذته عن ظهره فقال (صلى الله عليه وآله) : « اللهمّ عليك الملأ من قريش ، اللهمّ عليك بعتبة بن ربيعة ، اللهمّ عليك بشيبة بن ربيعة، اللهمّ عليك بأبي جهل بن هشام، اللهمّ عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهمّ عليك باُبي بن خلف واُمية بن خلف ».



قال عبدالله بن مسعود : فلقد رأيتهم قتلوا يوم بدر جميعاً ثم سحبوا إلى القليب[9] غير أُبي بن خلف أو اُمية فإنّه كان رجلاً ضخماً فتقطع[10] .